الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (176) قوله : الأيكة : قرأ نافع وابن كثير وابن عامر "ليكة" بلام واحدة وفتح التاء. جعلوه اسما غير معرف بأل مضافا إليه " أصحاب " هنا، وفي ص خاصة. والباقون "الأيكة" معرفا بأل موافقة لما أجمع عليه في الحجر وفي ق.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد اضطربت أقوال الناس في القراءة الأولى. وتجرأ بعضهم على قارئها، وسأذكر لك من ذلك طرفا. فوجهها على ما قال أبو عبيد: "أن ليكة اسم للقرية التي كانوا فيها، والأيكة اسم للبلد كله. قال أبو عبيد: "لا أحب مفارقة الخط في شيء من القرآن إلا ما يخرج من كلام العرب، وهذا ليس بخارج من كلامها مع صحة المعنى في هذه الحروف; وذلك أنا وجدنا في بعض التفسير الفرق بين ليكة والأيكة فقيل: ليكة هي اسم القرية التي كانوا فيها، والأيكة: البلاد كلها فصار الفرق بينهما شبيها بما بين بكة ومكة، ورأيتهن مع هذا في الذي يقال: إنه الإمام مصحف عثمان مفترقات، فوجدت التي في الحجر والتي في ق "الأيكة"، ووجدت التي في الشعراء والتي في ص "ليكة"، ثم اجتمعت عليها مصاحف الأمصار بعد، فلا نعلمها اختلفت فيها. وقرأ أهل المدينة على هذا اللفظ الذي قصصنا يعني بغير ألف ولام ولا إجراء". انتهى [ ص: 545 ] ما قاله أبو عبيد. قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة بعدما نقلته عنه: "هذه عبارته وليست سديدة; فإن اللام موجودة في "ليكة" وصوابه بغير ألف وهمزة". قلت: بل هي سديدة. فإنه يعني بغير ألف ولام معرفة لا مطلق لام في الجملة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تعقب قول أبي عبيد، وأنكروا عليه، فقال أبو جعفر: "أجمع القراء على خفض التي في الحجر وق فيجب أن يرد ما اختلف فيه إلى ما اتفق عليه إذا كان المعنى واحدا. فأما ما حكاه أبو عبيد من أن "ليكة" اسم القرية، وأن الأيكة اسم البلد كله فشيء لا يثبت ولا يعرف من قاله، ولو عرف لكان فيه نظر; لأن أهل العلم جميعا من المفسرين والعالمين بكلام العرب على خلافه. ولا نعلم خلافا بين أهل اللغة أن الأيكة الشجر الملتف. فأما احتجاج بعض من احتج لقراءة من قرأ في هذين الموضعين بالفتح أنه في السواد "ليكة" فلا حجة فيه. والقول فيه: أن أصله: الأيكة، ثم خففت الهمزة فألقيت حركتها على اللام فسقطت واستغنيت عن ألف الوصل; لأن اللام قد تحركت، فلا يجوز على هذا إلا الخفض، كما تقول: مررت بالأحمر على تحقيق الهمزة، ثم تخففها فتقول: بلحمر فإن شئت كتبته في الخط على ما كتبته أولا، وإن شئت كتبته بالحذف ولم يجز إلا الخفض، فلذلك لا يجوز في "الأيكة" إلا الخفض. قال سيبويه: "واعلم أن كل ما لم ينصرف إذا دخلته الألف واللام أو أضفته انصرف"، ولا نعلم أحدا خالف سيبويه في هذا".

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 546 ] وقال المبرد في كتاب "الخط" "كتبوا في بعض المواضع "كذب أصحاب ليكة" بغير ألف; لأن الألف تذهب في الوصل، ولذلك غلط القارئ بالفتح فتوهم أن "ليكة" اسم شيء، وأن اللام أصل فقرأ: أصحاب ليكة". وقال الفراء: "نرى - والله أعلم- أنها كتبت في هذين الموضعين بترك الهمز فسقطت الألف لتحريك اللام". قال مكي: تعقب ابن قتيبة على أبي عبيد فاختار "الأيكة" بالألف والهمزة والخفض قال: "إنما كتبت بغير ألف على تخفيف الهمز". قال: "وقد أجمع الناس على ذلك، يعني في الحجر وق، فوجب أن يلحق ما في الشعراء وص بما أجمعوا عليه، فما أجمعوا عليه شاهد لما اختلفوا فيه".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو إسحاق: "القراءة بجر قوله: "ليكة" وأنت تريد "الأيكة" أجود من أن تجعلها "ليكة"، وتفتحها; لأنها لا تنصرف; لأن ليكة لا تعرف، وإنما هي أيكة للواحد، وأيك للجمع مثل: أجمة وأجم. والأيك: الشجر الملتف فأجود القراءة فيها الكسر، وإسقاط الهمزة، لموافقة المصحف ولا أعلمه إلا قد قرئ به".

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الفارسي: "قول من قال "ليكة" ففتح التاء مشكل، لأنه فتح مع لحاق اللام الكلمة. وهذا في الامتناع كقول من قال: "مررت بلحمر" ففتح [ ص: 547 ] الآخر مع لحاق لام المعرفة، وإنما كتبت "ليكة" على تخفيف الهمز، والفتح لا يصح في العربية; لأنه فتح حرف الإعراب في موضع الجر مع لام المعرفة، فهو على قياس قول من قال "مررت بلحمر". ويبعد أن يفتح نافع ذلك مع ما قال عنه ورش".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: يعني أن ورشا نقل عن نافع نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، حيث وجد بشروط مذكورة، ومن جملة ذلك: ما في سورة الحجر وق من لفظ "الأيكة" فقرأ على قاعدته في السورتين بنقل الحركة وطرح الهمزة وخفض الياء، فكذلك ينبغي أن يكون الحكم في هذين الموضعين أيضا.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري: "قرئ "أصحاب الأيكة" بالهمزة وتخفيفها وبالجر على الإضافة، وهو الوجه. ومن قرأ بالنصب وزعم أن ليكة بوزن ليلة اسم بلد، فتوهم قاد إليه خط المصحف، وإنما كتبت على حكم لفظ اللافظ كما يكتب أصحاب [النحو]، لأن. . . على هذه الصورة لبيان لفظ المخفف، وقد كتبت في سائر القرآن على الأصل، والقصة واحدة. على أن ليكة اسم لا يعرف. وروي أن أصحاب الأيكة كانوا أصحاب شجر ملتف وكان شجرهم الدوم، يعني أن مادة لام ي ك مفقودة في لسان العرب كذا قال النقاب ممن تتبع ذلك قال: "وهذا كما نصوا على أن الخاء والذال المعجمتين لم يجامعا الجيم في لغة العرب" ولذلك لم يذكرها صاحب [ ص: 548 ] "الصحاح" مع ذكره التفرقة المتقدمة عن أبي عبيد، ولو كانت موجودة في اللغة لذكرها مع ذكره التفرقة المتقدمة لشدة الاحتياج إليها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزجاج أيضا: "أهل المدينة يفتحون على ما جاء في التفسير: أن اسم المدينة التي كان فيها شعيب ليكة" قال أبو علي: "لو صح هذا فلم أجمع القراء على الهمز في قوله: "وإن كان أصحاب الأيكة" في الحجر. والأيكة التي ذكرت ههنا هي الأيكة التي ذكرت هناك. وقد قال ابن عباس: "الأيكة: الغيضة" ولم يفسرها بالمدينة ولا البلد".

                                                                                                                                                                                                                                      قلت: وهؤلاء كلهم كأنهم زعموا أن هؤلاء الأئمة الأثبات إنما أخذوا هذه القراءة من خط المصاحف دون أفواه الرجال، وكيف يظن بمثل أسن القراء وأعلاهم إسنادا، الآخذ للقرآن عن جملة من جلة الصحابة أبي الدرداء وعثمان بن عفان وغيرهما، وبمثل إمام مكة شرفها الله تعالى وبمثل إمام المدينة؟ وكيف ينكر على أبي عبيد قوله، أو يتهم في نقله؟ ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، والتواتر قطعي فلا يعارض بالظني.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما اختلاف القراءة مع اتحاد القصة فلا يضر ذلك، عبر عنها تارة [ ص: 549 ] بالقرية خاصة، وتارة بالمصر الجامع للقرى كلها، الشامل هو لها. وأما تفسير ابن عباس فلا ينافي ذلك، لأنه عبر عنها كثر فيها. ومن رأى ما ذكرته من مناقب هؤلاء الأئمة في شرح "حرز الأماني" اطرح ما طعن به عليهم، وعرف قدرهم ومكانتهم. وقال أبو البقاء في هذه القراءة: "وهذا لا يستقيم; إذ ليس في الكلام "ليكة" حتى يجعل علما. فإن ادعي قلب الهمزة لاما فهو في غاية البعد". قلت:


                                                                                                                                                                                                                                      3531 - وابن اللبون إذا ما لز في قرن لم يستطع صولة البزل القناعيس



                                                                                                                                                                                                                                      "أطرق كرا إن النعام بالقرى" "من أنت وزيدا".

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية