الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة الرد على من حسم سبيل الاجتهاد بالظن

              ولم يجوز الحكم في الشرع إلا بدليل قاطع ، كالنص ، وما يجري مجراه . فأما الحكم بالرأي ، والاجتهاد فمنعوه ، وزعموا أنه لا دليل عليه ، وإنما الرد عليهم بإظهار الدليل ، وما عندي أن أحدا ينازع في الاجتهاد في تحقيق مناط الحكم ، فلا تصرف الزكاة إلا إلى فقير ، ويعلم فقره بأمارة ظنية ، ولا يحكم إلا بقول عدل ، وتعرف عدالته بالظن ، وكذلك الاجتهاد في الوقت ، والقبلة ، وأروش الجنايات ، وكفاية القريب .

              وإن اعتذروا عن جميع ذلك بأن كل عبد مأمور باتباع ظنه في ذلك ، وظنه موجود قطعا ، والحكم عند الظن واجب قطعا ، فنحن كذلك نقول في سائر الاجتهادات ، وإن اعتذروا عن ذلك بأن ذلك ضرورة ، فإنما نزاعنا في معرفة مناط الأحكام بالرأي ، والاجتهاد ، فيستدل على ذلك بإجماع الصحابة على الحكم بالرأي ، والاجتهاد في كل واقعة وقعت لهم ، ولم يجدوا فيها نصا ، وهذا مما تواتر إلينا عنهم تواترا لا شك فيه ، فننقل من ذلك بعضه ، وإن لم يمكن نقل الجميع .

              فمن ذلك حكم الصحابة بإمامة أبي بكر رضي الله عنه بالاجتهاد مع انتفاء النص ، ونعلم قطعا بطلان دعوى النص عليه ، وعلى علي ، وعلى العباس ، إذ لو كان لنقل ، ولتمسك به المنصوص عليه ، ولم يبق للمشورة مجال حتى ألقى عمر رضي الله عنه الشورى بين ستة ، وفيهم علي رضي الله عنه ، فلو كان منصوصا عليه ، وقد استصلحه له ، فلم تردد بينه ، وبين غيره ؟ ومن ذلك قياسهم العهد على العقد ، إذ ورد في الأخبار عقد الإمامة بالبيعة ، ولم ينص على واحد ، وأبو بكر عهد إلى عمر خاصة ، ولم يرد فيه نص ، ولكن قاسوا تعيين الإمام على تعيين الأمة لعقد البيعة فكتب أبو بكر : " هذا ما عهد أبو بكر " ، ولم يعترض عليه أحد .

              ، ومن ذلك رجوعهم إلى اجتهاد أبي بكر ورأيه في قتال مانعي الزكاة حتى قال عمر : فكيف تقاتلهم ، وقد قال عليه السلام { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم ، وأموالهم إلا بحقها } ؟ فقال أبو بكر : " ألم يقل { إلا بحقها ؟ } فمن حقها إيتاء الزكاة كما أن من حقها إقام الصلاة ، فلا أفرق بين ما جمع الله .

              والله لو منعوني عقالا مما أعطوا النبي عليه السلام لقاتلتهم عليه " ، وبنو حنيفة الممتنعون من الزكاة جاءوا إلى أبي بكر رضي الله عنه متمسكين بدليل أصحاب الظاهر في اتباع النص ، وقالوا : إنما أمر النبي عليه السلام بأخذ الصدقات ; لأن صلاته كانت سكنا لنا ، وصلاتك ليست بسكن لنا ، إذ قال الله تعالى : { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم ، وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم } .

              فأوجبوا تخصيص الحكم بمحل النص ، وقاس أبو بكر ، والصحابة خليفة الرسول على الرسول ، إذ الرسول إنما كان يأخذ للفقراء لا لحق نفسه ، والخليفة نائب في استيفاء الحقوق ، ومن ذلك ما أجمعوا عليه من طريق الاجتهاد بعد طول التوقف فيه ، ككتب المصحف ، وجمع القرآن بين الدفتين ، فاقترح عمر ذلك أولا على أبي بكر فقال : كيف أفعل ما لم يفعله النبي عليه السلام ؟ حتى شرح الله له صدر أبي بكر ، وكذلك جمعه عثمان على ترتيب واحد بعد أن كثرت المصاحف مختلفة الترتيب ، ومن ذلك إجماعهم على الاجتهاد في مسألة الجد ، والإخوة على وجوه مختلفة مع قطعهم بأنه لا نص في المسائل التي قد أجمعوا على الاجتهاد فيها . [ ص: 287 ]

              التالي السابق


              الخدمات العلمية