الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      خبر الأبلة : قال أبو داود : حدثنا ابن المثنى ، ثنا إبراهيم بن صالح بن درهم ، سمعت أبي يقول : انطلقنا حاجين ، فإذا رجل ، فقال لنا : من أين جئتم؟ [ ص: 6 ] فقلنا : من بلد كذا وكذا . فقال : إن بجنبكم قرية يقال لها : الأبلة؟ فقلنا : نعم . فقال : من يضمن أن يصلي لي في مسجد العشار ركعتين أو أربعا ، ويقول : هذه لأبي هريرة؟ فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله يبعث من مسجد العشار شهداء لا يقوم مع شهداء بدر غيرهم " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وقال صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في " الصحيحين " : " إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده ، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده ، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله " . وقد وقع ذلك كما أخبر به سواء بسواء ، في زمن أبي بكر ، وعمر ، وعثمان; انزاحت يد قيصر ذلك الوقت - واسمه هرقل - عن بلاد الشام والجزيرة ، وثبت ملكه مقصورا على بلاد الروم فقط ، والعرب إنما كانوا يسمون قيصر لمن ملك بلاد الروم مع الشام والجزيرة . وفي هذا الحديث بشارة عظيمة لأهل الشام; وهو أن يد ملك الروم لا تعود إليها أبد الآبدين . وسنورد هذا الحديث قريبا بإسناده ومتنه إن شاء الله تعالى . وأما كسرى فإنه سلب عامة ملكه في زمن عمر بن الخطاب ، ثم استؤصل باقيه في خلافة عثمان ، وقتل في سنة ثنتين وثلاثين ، ولله الحمد والمنة ، وقد بسطنا ذلك مطولا فيما سلف ، وقد دعا على كسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه أنه مزق كتابه ، بأن يمزق ملكه كل ممزق ، فوقع الأمر كذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في " الصحيحين " من حديث الأعمش ، وجامع بن أبي راشد ، عن [ ص: 7 ] شقيق بن سلمة ، عن حذيفة ، قال : كنا جلوسا عند عمر بن الخطاب ، فقال : أيكم يحفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتنة؟ قلت : أنا . قال : هات إنك لجريء . فقلت : ذكر فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره ، يكفرها الصلاة والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . فقال : ليس هذا أعني ، إنما أعني التي تموج موج البحر . فقلت : يا أمير المؤمنين ، إن بينك وبينها بابا مغلقا . فقال : ويحك ! أيفتح الباب أم يكسر؟ قلت : بل يكسر . قال : إذا لا يغلق أبدا . قلت : أجل . فقلنا لحذيفة : أكان عمر يعلم من الباب؟ قال : نعم; إني حدثته حديثا ليس بالأغاليط . قال : فهبنا أن نسأل حذيفة : من الباب؟ فقلنا لمسروق : سله . فسأله ، فقال : هو عمر . وهكذا وقع الأمر سواء بعد مقتل عمر في سنة ثلاث وعشرين; وقعت الفتن بين الناس بعد مقتله ، وكان ذلك سبب انتشارها بينهم .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وأخبر صلى الله عليه وسلم عن عثمان بن عفان أنه من أهل الجنة ، على بلوى تصيبه ، فوقع الأمر كذلك; حصر وقتل صابرا محتسبا شهيدا ، رضي الله عنه ، وقد ذكرنا عند مقتله الأحاديث التي وردت بالإنذار بذلك ، والإعلام به قبل كونه; فوقع طبق ذلك سواء بسواء . وذكرنا ما ورد من الأحاديث في الجمل وصفين ، فوقع الأمر كذلك . وكذلك الإخبار بمقتل عمار . وما ورد في [ ص: 8 ] الأحاديث بمقتل الخوارج الذين قتلهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصفتهم ، ونعت ذي الثدية منهم . كل ذلك قد حررناه فيما سلف ، ولله الحمد والمنة . وذكرنا عند مقتل علي الحديث الوارد في ذلك بطرقه ، وألفاظه ، وتقدم الحديث الذي رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والترمذي وحسنه ، من طريق سعيد بن جمهان ، عن سفينة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكا " . وقد اشتملت هذه الثلاثون سنة على خلافة أبي بكر الصديق ، وعمر الفاروق ، وعثمان الشهيد ، وعلي بن أبي طالب الشهيد أيضا ، وكان تمامها وختامها بستة أشهر وليها الحسن بن علي بعد أبيه ، وعند تمام الثلاثين نزل عن الأمر لمعاوية بن أبي سفيان ، وأصفقت البيعة لمعاوية وسمي ذلك عام الجماعة ، وقد بسطنا ذلك فيما تقدم . وروى البخاري عن أبي بكرة ، رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول - والحسن بن علي إلى جانبه على المنبر - : " إن ابني هذا سيد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " . وهكذا وقع .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في " الصحيحين " عن أم حرام بنت ملحان أن ناسا من هذه الأمة يغزون البحر مرتين ، وأنها تكون مع الأولين ، فكان الأمر كذلك في سنة سبع وعشرين ، مع معاوية في خلافة عثمان ، حين استأذن عثمان في غزو قبرس ، [ ص: 9 ] فأذن له فركب المسلمون المراكب إليها وفتحوها قسرا ، وتوفيت أم حرام في هذه الغزوة ، وكانت أم حرام مع زوجها عبادة بن الصامت ، وكان مع معاوية في هذه الغزوة زوجته فاختة بنت قرظة . وأما غزوة البحر الثانية فكانت في سنة ثنتين وخمسين في أيام معاوية أيضا ، غزاها ابنه يزيد ومعه الجنود فدخلوا إلى القسطنطينية ، وكان معه في هذا الجيش جماعة من أعيان الصحابة ، منهم أبو أيوب الأنصاري خالد بن زيد ، رضي الله عنه ، فمات هنالك وأوصى إلى يزيد بن معاوية ، أن يدفنه تحت سنابك الخيل ، وأن يوغل به إلى أقصى ما يمكن أن ينتهي به إلى نحو جهة العدو ، ففعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      وتفرد البخاري بما رواه من طريق ثور بن يزيد ، عن خالد بن معدان ، عن عمير بن الأسود العنسي ، عن أم حرام ، أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أول جيش من أمتي يغزون البحر قد أوجبوا " . قالت أم حرام : قلت : يا رسول الله ، أنا فيهم؟ قال : " أنت فيهم " . ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم " . قلت : أنا فيهم يا رسول الله؟ قال : " لا " .

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية