الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        [ ص: 5387 ] كتاب الشهادات

                                                                                                                                                                                        النسخ المقابل عليها

                                                                                                                                                                                        1- (ف) = نسخة فرنسا رقم (1071)

                                                                                                                                                                                        2- (ت) = نسخة تازة رقم (234 & 243)

                                                                                                                                                                                        3- (ر) = نسخة الحمزوية رقم (110) [ ص: 5388 ]

                                                                                                                                                                                        [ ص: 5389 ]

                                                                                                                                                                                        بسم الله الرحمن الرحيم

                                                                                                                                                                                        صلى الله على سيدنا ومولانا محمد

                                                                                                                                                                                        وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرا

                                                                                                                                                                                        كتاب الشهادات

                                                                                                                                                                                        ذكر الله -عز وجل- الشهادة في كتابه في ستة مواضع: في الدين، وفي الوصية، والطلاق، والرجعة، والزنا، وفيما يدفع الحد عن القاذف.

                                                                                                                                                                                        فقال: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه [البقرة: 282]. فأمر في بيوع الآجال بالكتابة والإشهاد، وفي بيوع النقد بالإشهاد دون الكتابة، فقال -عز وجل- في بيوع الآجال: فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل [البقرة: 282].

                                                                                                                                                                                        أي: فلا يدع منه حقا ولا يزيد فيه باطلا، وفيه دليل أن المكتوب بينهم أميون، وأن ذلك موكل إلى أمانة الكاتب، فأمره أن يكتب بالعدل؛ لئلا يكتب غير ما أمليا عليه، وألا يميل مع أحدهما.

                                                                                                                                                                                        وقال الله تعالى: ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله [البقرة: 282].

                                                                                                                                                                                        فقيل: كما علمه الله من الكتابة بالعدل. وقيل: كما فضله بعلم الكتابة بالعدل. وهو أحسن; لأن الأمر بالكتابة بالعدل قد تقدم، فكان حمله على [ ص: 5390 ] فائدتين أولى، فالكتابة على من تعلمها إذا لم يكن بالموضع سواه فرض، وإن كانوا جماعة كان من فروض الكفاية، فإن أطاع أحدهم سقط عن الباقين، وإن امتنع جميعهم اقترعوا، فأيهم خرج سهمه كتب.

                                                                                                                                                                                        وقال تبارك وتعالى: وليملل الذي عليه الحق [البقرة: 282]. فأمر الذي عليه الحق بالإملاء دون الطالب; لأنه مقر على نفسه، والآخر في معنى المدعي، ولأنه مطلوب فكان القول قوله، ولأن ذلك يدفع الشبهة، فقد يقول إذا أملى الذي له الحق بعد اليوم خفي علي بعض الذي أملى. وفي وعظه أنه لا يبخس منه شيئا دليل على جواز العقد بغير بينة، ثم يشهدان بعد ذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال سبحانه: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [البقرة: 282]. فقيل: الهاء من وليه عائدة على الذي له الحق، إذا كانت أحد هذه الأعذار الثلاثة. وقيل: إنه [ ص: 5391 ] يملل ولي المطلوب.

                                                                                                                                                                                        واختلف في السفيه والضعيف، فقيل: السفيه: الجاهل بالإملاء من قوله -عز وجل-: سيقول السفهاء من الناس [البقرة: 142] وهم الذين سفهوا الحق وجهلوه. وقيل: سفيه في المال من صغير أو كبير: لا يحسن الإمساك؛ لقول الله تعالى: ولا تؤتوا السفهاء أموالكم [النساء: 5].

                                                                                                                                                                                        وقيل في الضعيف: هو العاجز عن الإملاء، لعي بلسانه أو خرس. وقيل: هو الأحمق، أي: ضعيف العقل. وقيل في الذي لا يستطيع أن يمل: أن ذلك لغيبة أو عذر.

                                                                                                                                                                                        فأما قوله سبحانه: فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا [البقرة: 282] ، فيحتمل أن يكون وجب عليه ذلك الحق; لأنه باشر العقد، أو لأنه في ولاء تقدم عليه لم يؤنس منه رشد، فعقد عليه وليه ما يحق عليه، والولي هو الذي يملل، وإذا احتمل ذلك كان حمله على ما لا خلاف فيه، أن المداينة كانت صحيحة، وهو حال كونه في الولاء أولى. وإن كان رشيدا ضعيفا عن الإملاء لا يستطيع ذلك، فالولي من وكله المطلوب لذلك.

                                                                                                                                                                                        وقال -عز وجل-: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء [البقرة: 282]. فأمر بتبدية الرجال، وأن لا [ ص: 5392 ] يستشهد بالنساء إلا عند عدم الرجال; لأن التوثق بهم أحوط والجرحة منهم أبعد، ولأن النساء يحتاج متى أريد منهن تبليغ الشهادة من يشهد على وجوههن ويعرفهن، والرجال أقرب وأسرع إلى أداء الشهادة والقراءة.

                                                                                                                                                                                        فتذكر مخففة ساكنة الذال ومشددة بمعنى واحد، يقال: أذكرني وذكرني. وفي الصحيحين قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لقد أذكرني كذا وكذا آية كنت أنسيتها" ولا وجه للقول أن المعنى أن تصير إحداهما الأخرى ذكرا; لأن في ذلك إبطال فائدة قوله سبحانه: أن تضل إحداهما وهو أن تنسى.

                                                                                                                                                                                        وقد احتج بهذا أنه لا يقتصر على معرفة الخط دون أمر يذكر الشهادة; لأنه إنما يستشهد منهن من تكتب، ولو كانتا ممن لا يحسن الكتابة لم يفد هذا فائدة; لأن الصحيفة تبقى بشاهد واحد.

                                                                                                                                                                                        واختلف في معنى قوله سبحانه: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [البقرة: 282]. فقيل: ذلك حين تكتب الشهادة. وقيل: إذا دعوا لأدائها عند [ ص: 5393 ] الحاكم. وقيل: المراد الأمرين.

                                                                                                                                                                                        والأول أصوب; لأن الآية إنما وردت فيما يفعله المتبايعان من التوثق وقت البيع بالكتابة والإشهاد، ومن يشهد فيه؛ لئلا تضيع الأموال، ولدفع الأيمان، والذي يدل على ذلك قوله سبحانه فيما بعد: ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا [البقرة: 282] أي: إذا كتب ذكر الحق وكتبت الشهادة، كان أقرب لرفع الشك في الشهادة، والتلاوة وردت في ذكر ما يفعل عند كتبه الكتاب لم تنقض بعد.

                                                                                                                                                                                        وقال -عز وجل-: إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم [البقرة: 282] فأسقط الكتابة في بيع النقد، وأثبت الإشهاد في بيع النقد; لأنهما يتناجزان في قبض الثمن والمثمون، فلم يحتاجا إلى كتبه; لأن الغالب أن لا يضر النسيان في مثل ذلك لقربه.

                                                                                                                                                                                        واختلف في معنى قوله: ولا يضار كاتب ولا شهيد [البقرة: 282]. فقيل: المعنى (لا يضارر) على ما سمي فاعله. وقيل: (لا يضارر) على ما لم يسم فاعله، فيكلفا الكتابة والشهادة في وقت يشق عليهما. وهو أحسن; لأن أول [ ص: 5394 ] التلاوة قد تضمن وعظ الكاتب والشاهد؛ لقوله: ولا يأب كاتب أن يكتب [البقرة: 282] ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا [البقرة: 282] ، وهذا في الحق الذي عليهما، ثم كان في هذا وعظ من له قبلهما ذلك الحق أن لا يضارر بهما، فكان حمله على زيادة فائدة أولى من حمله على التكرار.

                                                                                                                                                                                        وقال تعالى: وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة [البقرة: 283]. يريد: إذا كان البيع بثمن مؤجل، وفيه دليل على أن القول قول المرتهن في قدر الدين، فيما بينه وبين قيمة الرهن.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الأمر المتقدم بالكتابة والإشهاد، شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم [المائدة: 106] هل ذلك على الوجوب أو الندب؟ واختلف هل نسخ بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا [البقرة: 283]؟ والقول أن الآية ثابتة أحسن، لإمكان أن يريد الودائع وشبهها، فلا تنسخ آية ثابتة بمحتمل، وقد جعل الله -عز وجل- الكتابة والإشهاد حكمة منه؛ لما علم سبحانه مما يقع بين المتبايعين عند حلول الدين من اللدد أي والجحود، وإن ترك الإشهاد والكتابة يؤدي إلى الفجور والأيمان الكاذبة، والكتابة والإشهاد حفظ لدينهم وأموالهم. وقال الطبري: أولى ذلك بالصواب أن ذلك حق واجب على كل بائع ومشتر.

                                                                                                                                                                                        وقال -عز وجل-: شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل [ ص: 5395 ] منكم أو آخران من غيركم [المائدة: 106]

                                                                                                                                                                                        واختلف في معنى قوله: منكم و من غيركم فقيل: منكم: مسلم. ومن غيركم: غير مسلم. وقيل: من غير قبيلتكم; لأنه شرط العدالة في المسلم، فإذا كان ذلك لم تجز شهادة الكافر. وقيل: إنما شرطت العدالة إذا كانت الشهادة في الحضر. والوقف في قوله: منكم والابتداء من أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض [المائدة: 106] فتجوز للضرورة، وعلى هذا تجوز شهادة المسلم في السفر، وإن لم يكن عدلا.

                                                                                                                                                                                        وقال: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم [الطلاق: 2] فأمر بالإشهاد على الرجعة أو الفرقة أيهما اختار، فتضمنت الإشهاد على الطلاق، ولأن الرجعة لا تكون إلا عن طلاق، فالإشهاد على الرجعة إشهاد على تقدم الطلاق. وكذلك الإشهاد على الفراق هو إشهاد على الطلاق; لأن العدة والفراق لا يكونان إلا عن طلاق.

                                                                                                                                                                                        وقال تعالى: واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم [النساء: 15].

                                                                                                                                                                                        وقال: فيما ينفى به الحد عن القاذف: ثم لم يأتوا بأربعة شهداء [النور: 4]. [ ص: 5396 ]

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية