الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ( 71 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : فبشرنا سارة امرأة إبراهيم ثوابا منا لها على نكيرها وعجبها من فعل قوم لوط ( بإسحاق ) ، ولدا لها ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، يقول : ومن خلف إسحاق يعقوب ، من ابنها إسحاق .

و"الوراء" في كلام العرب ، ولد الولد ، وكذلك تأوله أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

18321 - حدثنا حميد بن مسعدة قال ، حدثنا بشر بن المفضل قال ، حدثنا داود ، عن عامر قال : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال : الوراء : ولد الولد .

18322 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى ، قال كل واحد منهما ، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري ، قال : كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران ، في مسجد علي بن زيد ، فمر بنا الحسن بن أبي الحسن فقال : يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال : ابني من ورائي ، [ ص: 395 ] فقال الحسن : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) .

18323 - حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال ، حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبي في قوله : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال : ولد الولد هو "الوراء" .

18324 - حدثني إسحاق بن شاهين قال ، حدثنا خالد ، عن داود ، عن عامر في قوله : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، قال : "الوراء" ، ولد الولد .

18325 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال ، حدثنا ابن علية ، عن داود ، عن الشعبي ، مثله .

18326 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال : سمعت الشعبي يقول : ولد الولد : هم الولد من الوراء .

18327 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا سفيان ، عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال : من هذا معك؟ قال : هذا ابن ابني . قال : هذا ولدك من الوراء! قال : فكأنه شق على ذلك الرجل ، فقال ابن عباس : إن الله يقول : ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، فولد الولد هم الوراء .

18328 - حدثني موسى بن هارون قال ، حدثنا عمرو بن حماد قال ، حدثنا أسباط ، عن السدي قال : لما ضحكت سارة . وقالت : "عجبا لأضيافنا هؤلاء ، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا " ! قال لها جبريل : أبشري بولد اسمه إسحاق ، ومن وراء إسحاق يعقوب . فضربت وجهها عجبا ، فذلك قوله : ( فصكت وجهها ) ، [ سورة الذاريات : 29 ] . وقالت : ( أألد وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب ) [ ص: 396 ] قالوا ( أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد ) ، قالت سارة : ما آية ذلك؟ قال : فأخذ بيده عودا يابسا فلواه بين أصابعه ، فاهتز أخضر ، فقال إبراهيم : هو لله إذا ذبيحا .

18329 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ( فضحكت ) يعني سارة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولما تعلم من قوم لوط فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب _ بابن وبابن ابن _ . فقالت وصكت وجهها يقال : ضربت على جبينها : ( يا ويلتا أألد وأنا عجوز ) ، إلى قوله : ( إنه حميد مجيد ) .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرأة العراق والحجاز : ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، برفع "يعقوب " ، ويعيد ابتداء الكلام بقوله . ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) ، وذلك وإن كان خبرا مبتدأ ، ففيه دلالة على معنى التبشير .

وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشام ، ( ومن وراء إسحاق يعقوب ) نصبا .

فأما الشامي منهما ، فذكر أنه كان ينحو ب" يعقوب " نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة ، كأنه قال : ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب . فلما لم يظهر "وهبنا" عمل فيه "التبشير" وعطف به على موضع "إسحاق " ، إذ كان "إسحاق" وإن كان مخفوضا ، فإنه بمعنى المنصوب بعمل "بشرنا" ، فيه ، كما قال الشاعر :


جئني بمثل بني بدر لقومهم أو مثل أسرة منظور بن سيار

[ ص: 397 ]

أو عامر بن طفيل في مركبه     أو حارثا ، يوم نادى القوم : يا حار



وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه ، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى . وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم . وقالوا : خطأ أن يقال : "مررت بعمرو في الدار وفي الدار زيد " وأنت عاطف ب "زيد" على "عمرو" ، إلا بتكرير الباء وإعادتها ، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع ، وجاز النصب ، فإن قدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض ، وذلك إذا قلت : "مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت" . وقد أجاز الخفض ، والصفة معترضة بين حرف العطف والاسم ، بعض نحويي البصرة .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعا ، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب ، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية ، وما عليه قرأة الأمصار . فأما النصب فيه فإن له وجها ، غير أني لا أحب القراءة به ، لأن كتاب الله نزل بأفصح ألسن العرب ، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة .

التالي السابق


الخدمات العلمية