الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2485 (15)

                                                                                              كتاب النكاح

                                                                                              (1) باب الترغيب في النكاح وكراهية التبتل

                                                                                              [ 1447 ] عن علقمة قال: كنت أمشي مع عبد الله بمنى فلقيه عثمان فقام سعد يتحدث، فقال له عثمان: يا أبا عبد الرحمن، ألا نزوجك جارية شابة - وفي رواية: (بكرا) مكان (شابة) - لعلها تذكرك ما مضى من زمانك؟ قال: فقال عبد الله: لئن قلت ذاك، لقد قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء".

                                                                                              رواه أحمد ( 1 \ 432 )، والبخاري (5066)، ومسلم (1400)، وأبو داود (2046)، والترمذي (1081)، والنسائي ( 4 \ 169 )، وابن ماجه (1845). [ ص: 80 ]

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              [ ص: 80 ] (15) كتاب النكاح

                                                                                              حقيقة النكاح: الوطء، وأصله: الإيلاج. وهو: الإدخال. وقد اشتهر إطلاقه على العقد؛ كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن [الأحزاب: 49]؛ أي: إذا عقدتم عليهن. وقد يطلق النكاح ويراد به العقد والوطء؛ كما قال تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن [البقرة: 221]؛ أي: لا تعقدوا عليهن، ولا تطؤوهن.

                                                                                              (1) باب الترغيب في النكاح

                                                                                              (قوله: ألا نزوجك جارية شابة ؟) (ألا): عرض وتحضيض. و (الجارية) هنا: [ ص: 81 ] المعصر وما قارب ذلك. والبكر: الذي لم يتزوج من الرجال والنساء؛ يقال: رجل بكر، وامرأة بكر - بكسر الباء - والبكر أيضا: أول الأولاد - بالكسر -؛ كما قال الشاعر:


                                                                                              يا بكر بكرين ويا خلب الكبد أصبحت مني كذراع من عضد



                                                                                              وفي مقابلة البكر: الأيم، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى.

                                                                                              و (قوله: لعلها تذكرك بعض ما مضى من زمانك ) أي: زمان نشاطك وغلمتك. فقد قال في الرواية الأخرى: ( لعلها ترجع إليك ما كنت تعهد من نفسك ) وكان عبد الله قد قلت رغبته في النساء؛ إما للاشتغال بالعبادة، وإما للسن، وإما لمجموعهما، فحركه عثمان بذلك.

                                                                                              و ( الباءة ) - بفتح الباء، والمد -: النكاح. وأصله: المنزل؛ يقال: باءة، ومباءة، ومبوأ. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في المدينة حين أطل عليها: (هذه المبوأ) أي: المنزل. ثم قيل للتزويج: باه؛ لأن من تزوج امرأة بوأها منزلا. قال الأصمعي : وفيه لغتان: باه، وباء. قال: هو الغشيان. وإن شئت جمعت بالتاء، فقلت: باءات. قال غيره: فيه أربع لغات، وزاد: باهة، فأبدل من الهمزة هاء، وباها - بالقصر والهاء -.

                                                                                              و (قوله صلى الله عليه وسلم: ( من استطاع ) أي: من وجد ما به يتزوج. و ( من لم يستطع ) [ ص: 82 ] أي: من لم يجد ذلك. ولا يراد به هنا: القدرة على الوطء؛ لقوله: ( فعليه بالصوم، فإنه له وجاء ).

                                                                                              و (قوله: فليتزوج ) أمر، وظاهره: الوجوب. وبه قال داود ومن تابعه. والواجب عندهم العقد لا الدخول، فإنه إنما يجب عندهم مرة في العمر. والجمهور: على أن التزويج مندوب إليه، مرغب فيه على الجملة. وقد اعتبره بعض علمائنا بالنظر إلى أحوال الناس، وقسمه بأقسام الأحكام الخمسة. وذلك واضح. وصرف الجمهور ذلك الأمر عن ظاهره لشيئين:

                                                                                              أحدهما: أن الله تعالى قد خير بين التزويج والتسري بقوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [النساء: 3] ثم قال: أو ما ملكت أيمانكم [النساء: 3]، والتسري ليس بواجب إجماعا، فالنكاح لا يكون واجبا ؛ لأن التخيير بين واجب وبين ما ليس بواجب يرفع وجوب الواجب. وبسط هذا في الأصول.

                                                                                              وثانيهما: قوله تعالى: والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين [المؤمنون: 5 - 6] ولا يقال في الواجب: إنه غير ملوم.

                                                                                              ثم هذا الحديث لا حجة لهم فيه لوجهين:

                                                                                              أحدهما: أن نقول بموجبه في حق الشاب المستطيع الذي يخاف الضرر على نفسه ودينه من العزبة، بحيث لا يرتفع عنه إلا بالتزويج، وهذا لا يختلف في وجوب التزويج عليه.

                                                                                              والثاني: أنهم قالوا: إنما يجب العقد لا الوطء. وظاهر الحديث: إنما هو الوطء، فإنه لا يحصل شيء من الفوائد التي أرشد إليها في ذلك الحديث؛ من [ ص: 83 ] تحصين الفرج، وغض البصر بالعقد. بل: إنما يحصل كل ذلك بالوطء، وهو الذي يحصل دفع الشبق إليه بالصوم. فما ذهبوا إليه لم يتناوله الحديث. وما تناوله الحديث لم يذهبوا إليه. وذلك دليل على سوء فهمهم، وقلة فطنتهم.

                                                                                              ولا حجة لهم في قوله تعالى: فانكحوا ما طاب لكم من النساء الآية؛ لأنه أمر قصد به بيان ما يجوز الجمع بينه من أعداد النساء، لا أنه قصد به حكم أصل القاعدة.

                                                                                              ولا حجة لهم في قوله تعالى: وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم [النور: 32] فإنه أمر للأولياء بالإنكاح، لا للأزواج بالنكاح.

                                                                                              وأغض: أسد. وأحصن: أمنع.

                                                                                              و (قوله: فعليه بالصوم ) قال الإمام أبو عبد الله : فيه إغراء بالغائب، ومن أصول النحويين ألا يغرى بغائب، وقد جاء شاذا قول بعضهم: عليه رجلا ليسني؛ على جهة الإغراء. قال القاضي أبو الفضل عياض : هذا الكلام لأبي محمد بن قتيبة والزجاجي وبعضهم، ولكن على قائله أغاليط ثلاثة:

                                                                                              أولها: قوله: لا يجوز الإغراء بالغائب، وصوابه: لا يجوز إغراء الغائب، أو لا يغرى غائب. فأما الإغراء بالشاهد والغائب فجائز. وهكذا نص أبو عبيد في هذا الحديث، وكذلك كلام سيبويه ومن بعده من أئمة هذا الشأن قالوا: وإنما يؤمر بمثل هذا الحاضر، والمخاطب، ولا يجوز: دونه زيدا، ولا: عليه زيدا - وأنت تريد غير المخاطب -؛ لأنه ليس بفعل له، ولا تصرف تصرفه. وإنما جاز [ ص: 84 ] للحاضر؛ لما فيه من معنى الفعل، ودلالة الحال. فأما الغائب فلا يوجد ذلك فيه؛ لعدم حضوره، وعدم معرفته بالحالة الدالة على المراد.

                                                                                              وثانيها: عد قولهم: عليه رجلا، ليس من إغراء الغائب. وقد جعله سيبويه والسيرافي منه. ورأوه شاذا.

                                                                                              قال القاضي : والذي عندي: أنه ليس المراد بها حقيقة الإغراء، وإن كانت صورته، فلم يرد هذا القائل تبليغ هذا الغائب، ولا أمره بإلزام غيره، وإنما أراد الإخبار عن نفسه بعدم مبالاته بالغائب، وأنه غير متأت له منه ما يريد، فجاء بهذه الصورة يدل على ذلك. ونحوه قولهم: إليك عني؛ أي: اجعل شغلك بنفسك عني، ولم يرد أن يغريه به، وإنما مراده: دعني، وكن كمن شغل عني.

                                                                                              وثالثها: عدهم هذه اللفظة في الحديث من إغراء الغائب.

                                                                                              قال القاضي : والصواب: أنه ليس في هذا الحديث إغراء الغائب جملة. والكلام كله والخطاب للحضور الذين خاطبهم صلى الله عليه وسلم بقوله: ( من استطاع منكم الباءة ) فالهاء هنا ليست للغائب، وإنما هي لمن خص من الحاضرين بعدم الاستطاعة؛ إذ لا يصح خطابه بكاف الخطاب؛ لأنه لم يتعين منهم، ولإبهامه بلفظة (من) وإن كان حاضرا. وهذا النحو كثير في القرآن؛ كقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر إلى قوله: فمن عفي له من أخيه شيء [البقرة: 178] وكقوله: كتب عليكم الصيام إلى قوله: فمن تطوع خيرا فهو خير له [البقرة: 183 - 184] وكقوله: ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحا نؤتها أجرها مرتين [الأحزاب: 31]، فهذه الهاءات كلها ضمائر للحاضر لا للغائب، ومثله: لو قلت [ ص: 85 ] لرجلين: من قام الآن منكما فله درهم. فهذه الهاء لمن قام من الحاضرين.

                                                                                              قلت: اختصرت كلام القاضي في هذا الفصل من غير تبديل، ولا زيادة، وهو حسن جيد، فلذلك نقلته بلفظه.

                                                                                              و (قوله: فإنه له وجاء ) - بكسر الواو، والمد - وهو: عض الأنثيين، أو رضهما بحجر ونحوه. وأصله: الغمز، والطعن. ومنه: وجأ في عنقه، ووجأ بطنه بالخنجر. وقال بعضهم: الوجء: أن توجأ العروق والخصيتان باقيتان بحالهما. والخصاء: شق الخصيتين، واستئصالهما. والجب: أن تحمى الشفرة، ثم تستأصل بها الخصيتان. وقد قاله بعضهم: (وجا) بفتح الواو، والقصر. وليس بشيء؛ لأن ذلك هو: الحفا في ذوات الخف، قاله الخطابي .

                                                                                              وفيه دليل: على جواز المعاناة لقطع الباه بالأدوية. وعلى أن مقصود النكاح: الوطء. وعلى وجوب الخيار في العنة.

                                                                                              و ( المعشر ): الجماعة من الناس.



                                                                                              الخدمات العلمية