الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه : لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا استئناف مقرر لما قبله من انتفاء اللعب في خلق السماء والأرض وما بينهما ، ومعنى الآية على ما استظهره صاحب الكشف لو أردنا اتخاذ لهو لكان اتخاذ لهو من جهتنا أي لهوا إلهيا أي حكمة اتخذتموها لهوا من جهتكم وهذا عين الجد والحكمة فهو في معنى لو أردناه لامتنع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إن كنا فاعلين كالتكرير لذلك المعنى مبالغة في الامتناع على أن إن شرطية وجوابها محذوف أي ( إن كنا فاعلين ) ما يوصف بفعله باللهو فكهذا يكون فعلنا ولو حمل على النفي ليكون تصريحا بنتيجة السابق كما عليه جمهور المفسرين لكان حسنا بالغا انتهى ، وقال الزمخشري : من لدنا أي من جهة قدرتنا ، وجعل حاصل المعنى أنا لو أردنا ذلك لاتخذنا فإنا قادرون على كل شيء إلا إنا لم نرده لأن الحكمة صارفة عنه ، وذكر صاحب الكشف أن تفسيره ذلك بالقدرة غير بين ، وقد فسره به أيضا البيضاوي وغيره وظاهره أن اتخاذ اللهو داخل تحت القدرة ، وقد قيل إنه ممتنع عليه تعالى امتناعا ذاتيا والممتنع لا يصلح متعلقا للقدرة ، وأجيب بأن صدق الشرطية لا يقتضي صدق الطرفين فهو تعليق على امتناع الإرادة أو يقال الحكمة غير منافية لاتخاذ ما من شأنه أن يتلهى به وإنما تنافي أن يفعل فعلا يكون هو سبحانه بنفسه لاهيا به فلا امتناع في الاتخاذ بل في وصفه انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      والحق عندي أن العبث لكونه نقصا مستحيل في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه وتعالى ونحن وإن لم نقل بالوجوب عليه تعالى لكنا قائلون بالوجوب عنه عز وجل ، قال أفضل المتأخرين الكلنبوي : إن [ ص: 19 ] مذهب الماتريدية المثبتين للأفعال جهة محسنة أو مقبحة قبل ورود الشرع إنه إن كان في الفعل جهة تقتضي القبح فذلك الفعل محال في حقه تعالى فتركه واجب عنه سبحانه ولا واجب عليه عز وجل ، وذلك كالتكليف بما لا يطاق عندهم كالكذب عند محققي الأشاعرة والماتريدية وإن لم يكن فيه تلك الجهة فذلك الفعل ممكن له تعالى وليس بواجب عليه سبحانه فهم يوافقون الأشاعرة في أنه تعالى لا يجب عليه شيء انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أنكر أن كون العبث نقصا كالكذب فقد كابر عقله ، وأبلغ من هذا أنه يفهم من كلام بعض المحققين القول بوجوب رعاية مطلق الحكمة عليه سبحانه لئلا يلزم أحد المحالات المشهورة وأن المراد من نفي الإصحاب الموجوب عليه تعالى نفي الوجوب في الخصوصيات على ما يقوله المعتزلة ، ولعله حينئذ يراد بالوجوب لزوم صدور الفعل عنه تعالى بحيث لا يتمكن من تركه بناء على استلزامه محالا بعد صدور موجبه اختيارا لا مطلقا ولا بشرط تمام الاستعداد لئلا يلزم رفض قاعدة الاختيار كما لا يلزم رفضها في اختيار الإمام الرازي ما اختاره كثير من الأشاعرة من لزوم العلم للنظر عقلا ، ومع هذا ينبغي التحاشي عن إطلاق الوجوب عليه تعالى فتدبره فإنه مهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل معنى من عندنا مما يليق بحضرتنا من المجردات أي لاتخذناه من ذلك لا من الأجرام المرفوعة والأجسام الموضوعة كديدن الجبابرة في رفع العروش وتحسينها وتسوية الفروش وتزيينها انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى أن أكثر أهل السنة على إنكار المجردات ثم على تقدير تفسير الآية بما ذكر المراد الرد على من يزعم اتخاذ اللهو في هذا العالم لا أنه يجوز اتخاذه من المجردات بل هو فيها أظهر في الاستحالة ، وعن الجبائي أن المعنى لو أردنا اتخاذ اللهو لاتخذناه من عندنا بحيث لا يطلع عليه أحد لأنه نقص فستره أولى أو هو أسرع تبادرا مما في الكشف وذلك أبعد مغزى ، وقال الإمام الواحدي : اللهو طلب الترويح عن النفس ثم المرأة تسمى لهوا وكذا الولد لأنه يستروح بكل منهما ولهذا يقال لامرأة الرجل وولده ريحانتاه ، والمعنى لو أردنا أن نتخذ امرأة ذات لهو أو ولدا ذا لهو لاتخذناه من لدنا أي مما نصطفيه ونختاره مما نشاء كقوله تعالى : لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء [الزمر : 4] وقال المفسرون : أي من الحور العين ، وهذا رد لقول اليهود في عزير وقول النصارى في المسيح وأمه من كونه عليه السلام ولدا وكونها صاحبة ، ومعنى من لدنا من عندنا بحيث لا يجري لأحد فيه تصرف لأن ولد الرجل وزوجته يكونان عنده لا عند غيره انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وتفسير اللهو هنا بالولد مروي عن ابن عباس والسدي ، وعن الزجاج أنه الولد بلغة حضرموت ، وكونه بمعنى المرأة حكاه قتادة عن أهل اليمن ولم ينسبه لأهل بلدة منه ، وزعم الطبرسي أن أصله الجماع ويكنى به عن المرأة لأنها تجامع وأنشد قول امرئ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      ألا زعمت بسباسة اليوم أنني كبرت وأن لا يحسن اللهو أمثالي



                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر حمل اللهو على ما سمعت أولا لقوله تعالى : وما بينهما لاعبين ولأن نفي الولد سيجيء مصرحا إن شاء الله تعالى ، ويعلم من ذلك أن كون المراد الرد على النصارى وأضرابهم غير مناسب هنا ، ثم إن الظاهر من السياق أن إن شرطية والجواب محذوف ثقة بدلالة ما قبل عليه أي إن كنا فاعلين لاتخذناه من لدنا وكونها نافية وإن كان حسنا معنى وقد قاله جماعة منهم مجاهد والحسن وقتادة وابن جريج استدرك عليه بعضهم بأن أكثر مجيء إن النافية مع اللام الفارقة لكن الأمر في ذلك سهل ،

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية