الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

( يخصص الكتاب ببعضه و ) يخصص أيضا ( بالسنة مطلقا ) أي سواء كانت متواترة أو آحادا ( و ) تخصص ( السنة به ) أي بالقرآن ( وببعضها ) أي تخصص السنة ببعضها ( مطلقا ) أي سواء كانت متواترة أو آحادا . فمن أمثلة تخصيص الكتاب بالكتاب : قوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } فإن عمومه خص بالحوامل في قوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } وخص أيضا عمومه الشامل للمدخول بها وغيرها بقوله تعالى في غير المدخول بها { فما لكم عليهن من عدة تعتدونها } ونحو ذلك قوله تعالى { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير } خص بقوله سبحانه وتعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } ونحو ذلك قوله تعالى { ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } خص بقوله سبحانه وتعالى { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن } والمخالف في مسألة تخصيص الكتاب بالكتاب بعض الظاهرية ، وتمسكوا بأن التخصيص بيان للمراد باللفظ . فلا يكون إلا بالسنة ، " لقوله تعالى { لتبين للناس ما نزل إليهم } وما ذكر من الأمثلة يجوز أن يكون التخصيص فيه بالسنة . كما في حديث أبي السنابل بن بعكك مع سبيعة الأسلمية حين قال { ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشرا : فجاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأفتاها بأنها قد حلت بوضع حملها } وأجيب بأن التخصيص [ ص: 414 ] لا يخرج عن كونه مبينا إذا بين ما أنزل بآية أخرى ، منزلة كما بين ما أنزل إليه من السنة . فإن الكل منزل . ومثال تخصيص الكتاب بالسنة ، حتى مع كونها آحادا عند أحمد ومالك والشافعي رضي الله عنهم : قوله سبحانه وتعالى { وأحل لكم ما وراء ذلكم } فإنه مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم " { لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها } متفق عليه . ونحوه تخصيص آية السرقة بما دون النصاب ، وقتل المشركين بإخراج المجوس ، وغير ذلك . قال ابن مفلح : وعند الحنفية إن كان خص بدليل مجمع عليه جاز وإلا فلا وقيل : بالوقف . وقيل : يجوز ولم يقع ، ومثال تخصيص السنة بالكتاب : قوله صلى الله عليه وسلم { ما أبين من حي فهو ميت } رواه ابن ماجه . خص بقوله سبحانه وتعالى { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } ومن أمثلته أيضا : قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه { خذوا عني خذوا عني . قد جعل الله لهن سبيلا ، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة . والثيب بالثيب : جلد مائة والرجم } فإن ذلك يشمل الحر والعبد بقوله سبحانه وتعالى { فإذا أحصن فإن أتين بفاحشة فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب } ومن ذلك حديث { أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله } خص بقوله سبحانه وتعالى { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } ومثال تخصيص السنة بالسنة . قوله صلى الله عليه وسلم { فيما سقت السماء العشر } فإنه مخصوص بقوله صلى الله عليه وسلم { ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة } وهو كثير . والمخالف في تخصيص السنة بالسنة داود الظاهري وطائفة . فقال : إنهما يتعارضان . ومنشأ الخلاف : ما ذكرنا من أن السنة إنما تكون مبينة لا محتاجة للبيان ( و ) يخصص لفظ ( عام بمفهوم مطلقا ) أي سواء كان مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة . فمثال مفهوم الموافقة : قوله صلى الله عليه وسلم { لي الواجد يحل عرضه وعقوبته } رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وابن حبان . والحاكم والبيهقي . قال الحاكم صحيح الإسناد . و " اللي " المطل . والمراد بحل عرضه : أن يقول غريمه : ظلمني وعقوبته الحبس . خص منه الوالدان بمفهوم قوله تعالى [ ص: 415 ] { فلا تقل لهما أف } فمفهومه : أنه لا يؤذيهما بحبس ولا غيره فلذلك لا يحبس الوالد بدين ولده ، بل ولا له مطالبته على الصحيح من المذهب . وعليه أكثر العلماء .

ومحل هذا حيث لم يجعل من باب القياس . فأما إن قلنا : إنه من باب القياس فيكون مخصصا بالقياس ومثال التخصيص بمفهوم المخالف - القائل به أكثر العلماء وهو الصحيح - قوله صلى الله عليه وسلم { إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث } رواه الأربعة وصححه ابن حبان والحاكم والبيهقي وغيرهم . خص بمفهومه - وهو الذي لم يبلغ قلتين - عموم قوله صلى الله عليه وسلم { الماء طهور لا ينجسه شيء ، إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه } رواه ابن ماجه والبيهقي . فإنه أعم من القلتين ، وما لم يبلغهما يصير تنجيس القلتين في الحديث الأول مخصوصا بالتغيير بالنجاسة ، ويبقى ما دونهما ينجس بمجرد الملاقاة في غير المواضع المستثناة بدليل آخر . وخالف في ذلك بعض أصحابنا والمالكية وابن حزم وغيرهم . فقالوا : لا يخص العموم بمفهوم المخالفة ( وبإجماع ) يعني أن العام يخص بإجماع ( والمراد دليله ) أي دليل الإجماع ، لا أن الإجماع نفسه مخصص ; لأن الإجماع لا بد له من دليل يستند إليه ، وإن لم نعرفه . ومثلوه بقوله سبحانه وتعالى { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } خص بالإجماع على أن العبد القاذف يجلد على النصف من الحر ، لكن قال البرماوي : في التمثيل بذلك نظر ، لاحتمال أن يكون التخصيص بالقياس ، ثم قال فإن قيل : لم لا تقولون بأن الإجماع يكون ناسخا ، على معنى أنه يتضمن ناسخا ؟ فجوابه : أن سند الإجماع قد يكون مما لا ينسخ به . فليس في كل إجماع تضمن لما يسوغ النسخ به . وأما التخصيص : فلما كان من البيان كان كل دليل مخصصا به . انتهى .

وجعل بعض العلماء من أمثله المسألة : قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع } خص بالإجماع على عدم وجوب الجمعة على العبد والمرأة ( ولو عمل أهله ) أي أهل الإجماع ( بخلاف نص خاص ) في مسألة ( تضمن ) إجماعهم على ذلك العمل دليلا ( ناسخا ) لذلك النص ، [ ص: 416 ] فيكون الدليل الذي تضمنه الإجماع ودل عليه : ناسخا لذلك النص ( و ) يخصص العام أيضا ( بفعله صلى الله عليه وسلم إن شمله العموم ) عند الأئمة الأربعة . رضي الله تعالى عنهم . . وقد خص أحمد قوله تعالى { ولا تقربوهن حتى يطهرن } بفعله صلى الله عليه وسلم وقال : دل على أنه أراد الجماع . وقال جمع ، منهم الكرخي : لا يخص به مطلقا . وقيل : إن فعله مرة فلا تخصيص ، لاحتمال كونه من خصائصه صلى الله عليه وسلم ( وإن ثبت وجوب اتباعه ) صلى الله عليه وسلم ( فيه ) أي في ذلك الفعل ( بدليل خاص فالدليل ناسخ للعام ) وقد مثل لذلك بالنهي عن استقبال القبلة واستدبارها ، ثم جلس مستقبل بيت المقدس مستدبر الكعبة فعلى القول بأن النهي شامل للصحراء والبنيان ، فيحرم فيهما . وبه قال جمع ، ويكون النبي صلى الله عليه وسلم خص بذلك وخرج من عموم النهي . وإن قلنا : إنه صلى الله عليه وسلم ليس مختصا بذلك . فالتخصيص للبنيان من العموم سواء هو والأمة في ذلك ( و ) يخص العام أيضا ( بإقراره ) أي إقرار النبي ( صلى الله عليه وسلم على فعل ) عند أصحابنا والأكثر ( وهو ) أي التخصيص ( أقرب من نسخه ) أي نسخ الحكم الذي دل عليه العام نسخا ( مطلقا ، أو ) نسخا ( عن فاعله ) وقيل : نسخ ، إن نسخ بالقياس . واستدل للأول بأن سكوته عن ذلك مع علمه دليل على جوازه وإلا لوجب إنكاره . قال المنكرون : التقرير لا صيغة له ، فلا يقابل الصيغة ، رد بجوازه وحيث جاز التخصيص بالتقرير ، فهل المخصص نفس تقريره صلى الله عليه وسلم أو المخصص ما تضمنه التقرير من سبق قول به ، فيكون مستدلا بتقريره على أنه قد خص بقول سابق ، إذ لا يجوز لهم أن يفعلوا ما فيه مخالفة : للعام إلا بإذن صريح ، فتقريره دليل ذلك ؟ فيه وجهان .

قال ابن فورك والطبري . الظاهر الأول : ( و ) يجوز تخصيص اللفظ العام أيضا ( بمذهب صحابي ) عند من يقول : إنه حجة . قال ابن قاضي الجبل : إذا قلنا : قول الصحابي حجة . جاز تخصيص العام به . نص عليه الإمام أحمد رضي الله عنه . وبه قالت الحنفية والمالكية وابن حزم وعيسى بن أبان وللشافعية وجهان . إذا قالوا بقوله القديم في كونه حجة انتهى ( وبقضايا الأعيان ) يعني أن اللفظ العام [ ص: 417 ] يخص بقضايا الأعيان ، مثال ذلك : { نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لبس الحرير للرجال ثم أذن في لبسه لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام ، لقمل كان بهما } ، إذنه لهما قضية عين فيكون الإذن في هذه الحالة مخصصا لعموم النهي

التالي السابق


الخدمات العلمية