الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قاعدة في السؤال والجواب :

الأصل في الجواب أن يكون مطابقا للسؤال ، إذا كان السؤال متوجها ، وقد يعدل في الجواب عما يقتضيه السؤال ، تنبيها على أنه كان من حق السؤال أن يكون كذلك . ويسميه السكاكي : الأسلوب الحكيم .

وقد جيء الجواب أعم من السؤال للحاجة إليه في السؤال وقد يجيء أنقص لاقتضاء الحال ذلك .

مثال ما عدل عنه : قوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] .

سألوا عن الهلال : لم يبدو دقيقا مثل الخيط ثم يتزايد قليلا قليلا حتى يمتلئ ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ ؟ فأجيبوا ببيان حكمة ذلك ، تنبيها على أن الأهم السؤال عن ذلك لا ما سألوا عنه . كذا قال السكاكي ومتابعوه . واسترسل التفتازاني في الكلام إلى أن قال : لأنهم ليسوا ممن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة .

وأقول : ليت شعري ، من أين لهم أن السؤال وقع عن غير ما حصل الجواب به ! وما المانع من أن يكون إنما وقع عن حكمة ذلك ليعلموها ؟ فإن نظم الآية محتمل لذلك ، كما أنه محتمل لما قالوه . والجواب ببيان الحكمة دليل على ترجيح الاحتمال الذي قلناه ، وقرينة ترشد إلى ذلك ; إذ الأصل في الجواب المطابقة للسؤال ، والخروج عن الأصل يحتاج إلى دليل ، ولم يرد بإسناد لا صحيح ولا غيره أن السؤال وقع على ما ذكروه ، بل ورد ما يؤيد ما قلناه ، فأخرج ابن جرير عن أبي العالية قال : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله ، لم خلقت الأهلة ؟ فأنزل الله : يسألونك عن الأهلة . فهذا صريح في أنهم سألوا عن حكمة ذلك ، لا عن كيفيته من جهة الهيئة . ولا يظن ذو دين بالصحابة - الذين هم أدق فهما ، وأغزر علما - أنهم [ ص: 583 ] ليسوا ممن يطلع على دقائق الهيئة بسهولة ، وقد اطلع عليها آحاد العجم الذين أطبق الناس على أنهم أبلد أذهانا من العرب بكثير ، هذا لو كان للهيئة أصل معتبر ، فكيف وأكثرها فاسد لا دليل عليه ؟ وقد صنفت كتابا في نقض أكثر مسائلها بالأدلة الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي صعد إلى السماء ، ورآها عيانا ، وعلم ما حوته من عجائب الملكوت بالمشاهدة ، وأتاه الوحي من خالقها . ولو كان السؤال وقع عما ذكروه لم يمتنع أن يجابوا عنه بلفظ يصل إلى أفهامهم ; كما وقع ذلك لما سألوا عن المجرة وغيرها من الملكوتيات .

نعم المثال الصحيح لهذا القسم جواب موسى لفرعون حيث قال : وما رب العالمين قال رب السماوات والأرض وما بينهما [ الشعراء : 23 - 24 ] ; لأن ( ما ) سؤال عن الماهية والجنس ، ولما كان هذا السؤال في حق البارئ سبحانه وتعالى خطأ ; لأنه لا جنس له فيذكر ، ولا تدرك ذاته ، عدل إلى الجواب بالصواب ، ببيان الوصف المرشد إلى معرفته ، ولهذا تعجب فرعون من عدم مطابقته للسؤال ، فقال لمن حوله : ألا تستمعون [ الشعراء : 25 ] أي : جوابه الذي لم يطابق السؤال ، فأجاب موسى بقوله : ربكم ورب آبائكم الأولين [ الشعراء : 26 ] المتضمن إبطال ما يعتقدونه من ربوبية فرعون نصا ، وإن كان دخل في الأول ضمنا ، إغلاظا ، فزاد فرعون في الاستهزاء ، فلما رآهم موسى لم يتفطنوا ، أغلظ في الثالث : بقوله إن كنتم تعقلون [ الشعراء : 28 ] .

ومثال الزيادة في الجواب : قوله تعالى : الله ينجيكم منها ومن كل كرب [ الأنعام : 643 ] في جواب من ينجيكم من ظلمات البر والبحر [ الأنعام : 63 ] .

وقال موسى هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي [ طه : 18 ] في جواب وما تلك بيمينك ياموسى [ طه : 17 ] زاد في الجواب استلذاذا بخطاب الله تعالى .

وقال قوم إبراهيم : نعبد أصناما فنظل لها عاكفين [ الشعراء : 71 ] في جواب : ما تعبدون [ الشعراء : 70 ] زادوا في الجواب إظهارا للابتهاج والاستمرار على مواظبتها ، ليزداد غيظ السائل .

ومثال النقص منه : قوله تعالى : قل ما يكون لي أن أبدله [ يونس : 15 ] في جواب : ائت بقرآن غير هذا أو بدله أجاب عن التبديل دون الاختراع . قال الزمخشري : لأن التبديل في إمكان البشر دون الاختراع . فطوى ذكره للتنبيه على أنه سؤال محال .

وقال غيره : التبديل أسهل من الاختراع ، وقد نفي إمكانه ، فالاختراع أولى .

تنبيه : قد يعدل عن الجواب أصلا إذا كان السائل قصده التعنت ، نحو : ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي [ ص: 584 ] [ الإسراء : 85 ] . قال صاحب " الإفصاح " : إنما سأل اليهود تعجيزا وتغليظا ، إذ كان الروح يقال بالاشتراك على روح الإنسان والقرآن وعيسى وجبريل وملك آخر وصنف من الملائكة ، فقصد اليهود أن يسألوه ، فبأي مسمى أجابهم ؟ قالوا : ليس هو ، فجاءهم الجواب مجملا ، وكان هذا الإجمال كيدا يرد به كيدهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية