الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه

استئناف لبيان أن اختلاف الأديان أمر كان من البشر لحكمة اقتضته وأنه ارتفع ذلك ورجع الله بالناس إلى وحدة الدين بالإسلام .

والمناسبة بينها وبين ما تقدمها تحتمل وجوها : الأول : قال فخر الدين : إن الله تعالى لما بين في قوله زين للذين كفروا الحياة الدنيا أن سبب إصرار الكفار على كفرهم هو استبدالهم الدنيا بالآخرة بين في هذه الآية أن هذه الحالة مختصة بالذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم بل كانت حاصلة في الأزمنة المتقادمة [ ص: 299 ] لأن الناس كانوا أمة واحدة قائمة على الحق وما كان اختلافهم لسبب البغي والتحاسد في طلب الدنيا اهـ . ، فتكون الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا لتنظير ما لقيه المسلمون بما كان في الأمم الغابرة .

الثاني : يؤخذ من كلام الطيبي عند قوله تعالى أم حسبتم أن تدخلوا الجنة أخذ من كلام الكشاف أن المقصود من قوله كان الناس أمة واحدة تشجيع الرسول عليه السلام والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين بذكر ما قابلت به الأمم السالفة أنبياءها وما لقوا فيها من الشدائد اهـ . ، فالمناسبة على هذا في مدلول قوله تعالى زين للذين كفروا الحياة الدنيا ويسخرون إلخ ، وتكون الجملة مستأنفة استئنافا ابتدائيا للمناسبة .

والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها : فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأ‍جله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين .

وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلف فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه إلى قوله إلى صراط مستقيم وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمنا على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبيء وأمته ، ردا على حسد المشركين ، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى ) سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم إلى قوله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

وحصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام ، فالمناسبة حاصلة مع جملة ادخلوا في السلم كافة بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين .

[ ص: 300 ] وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة : الوحدة في الضلال والكفر يكن الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة ، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ، فتكون الآية تثبيتا للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله زين للذين كفروا الحياة الدنيا .

فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبيينا لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم ، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قولهفهدى الله الذين آمنوا .

والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه ، و " ال " فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم ، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريرا مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيرا مثل نوح وما آمن معه إلا قليل .

والأمة بضم الهمزة : اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة ، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها .

والوصف : واحدة في الآية لتأكيد الإفراد في قوله " أمة " لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة ، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد ، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد .

والوحدة هنا : مراد بها الاتحاد والتماثل في الدين بقرينة تفريع ( فبعث الله النبيئين ) إلخ ، فيحتمل أن يكون المراد : كانوا أمة واحدة في الحق والهدى أي كان الناس على ملة واحدة من الحق والتوحيد ، وبهذا المعنى روى الطبري تفسيرها عن أبي بن كعب وابن عباس ومجاهد وقتادة وجابر بن زيد وهو مختار الزمخشري قال الفخر : وهو مختار أكثر المحققين قال القفال : بدليل قوله تعالى بعده فبعث الله النبيين إلى قوله فيما اختلفوا فيه لأن تفريع الخبر ببعثة النبيين على الجملة السابقة ، وتعليل البعث بقوله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه انتظم من ذلك كلام من بليغ الإيجاز وهو أن الناس كانوا أمة واحدة فجاءتهم الرسل [ ص: 301 ] بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد ليدوموا على الحق خشية انصرافهم عنه إذا ابتدأ الاختلاف يظهر وأيدهم الله بالكتب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، فلا جرم أن يكون مجيء الرسل لأجل إبطال اختلاف حدث ، وأن الاختلاف الذي يحتاج إلى بعثة الرسل هو الاختلاف الناشئ بعد الاتفاق على الحق كما يقتضيه التفريع على جملة كان الناس أمة واحدة بالفاء في قوله فبعث الله النبيين وعلى صريح قوله ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه .

ولأجل هذه القرينة يتعين تقدير : فاختلفوا بعد قوله أمة واحدة ، لأن البعثة ترتبت على الاختلاف لا على الكون أمة واحدة ، وعلى هذا الفهم قرأ ابن مسعود : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله إلخ ، ولو كان المراد أنهم كانوا أمة واحدة في الضلال لصح تفريع البعثة على نفس هذا الكون بلا تقدير ، ولولا أن القرينة صرفت عن هذا لكان هو المتبادر ، ولهذا قال ابن عطية : كل من قدر الناس في الآية كانوا مؤمنين قدر في الكلام فاختلفوا ، وكل من قدرهم كفارا كانت بعثة الرسل إليهم اهـ . ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين ، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة .

والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية ألست بربكم ، وأنها ما غشاها إلا تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحا جزئيا فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم ، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمدا لإكمال ذلك الإصلاح ، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله فهدى الله الذين آمنوا إلخ وعن عطاء والحسن ، أن المعنى : كان الناس أمة واحدة متفقين على الضلال والشر وهو يروى عن ابن عباس أيضا وعليه فعطف قوله ( فبعث الله النبيئين ) عطف على اللفظ الظاهر لا تقدير معه أي كانوا كذلك فبعث الله النبيئين فيعلم أن المراد ليرشدوا الناس إلى الحق بالتبشير والنذارة .

فالمقصود من الآية على هذا التأويل إظهار أن ما بعث الله به النبيئين قد وقع فيه التغيير والاختلاف فيما بعثوا به وأن الله بعث محمدا بالقرآن لإرشادهم إلى ما اختلفوا فيه فيكون [ ص: 302 ] المقصود بيان مزية دين الإسلام وفضله على سائر الأديان بما كان معه من البيان والبرهان .

وأيا ما كان المراد فإن فعل " كان " هنا مستعمل في أصل معناه وهو اتصاف اسمها المخبر عنه بمضمون خبرها في الزمن الماضي وأن ذلك قد انقطع ، إذ صار الناس منقسمين إلى فئتين فئة على الحق وفئة على الباطل .

فإن كان المراد الوحدة في الحق فقد حصل ذلك في زمن كان الغالب فيه على الناس الرشد والاستقامة والصلاح والإصلاح فلم يكونوا بحاجة إلى بعثة الرسل إلى أن اختلفت أحوالهم فظهر فيهم الفساد ، فقيل كان ذلك فيما بين آدم ونوح ونقل هذا عن ابن عباس وقتادة ومجاهد ، وقال ابن عطية قال قوم : كان ذلك زمن نوح كفر جل قومه فهلكوا بالطوفان إلا من نجاه الله مع نوح فكان أولئك النفر الناجون أمة واحدة قائمة على الحق ، وقيل إنما كان الناس على الحق حين خلق الله الأرواح التي ستودع في بني آدم ففطرها على الإسلام فأقروا له بالوحدانية والعبودية وهو ما في قوله تعالى في سورة الأعراف وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم على أحد تفاسير تلك الآية ، وروي هذا عن أبي بن كعب وجابر بن زيد والربيع بن سليمان ، وفي تفسير الفخر عن القاضي عبد الجبار وأبي مسلم الأصفهاني أن معنى الآية كان الناس أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية على وجود الخالق وصفاته واجتناب الظلم والكذب وحجتهما على ذلك أن قوله ( النبيئين ) جمع يفيد العموم أي لأنه معرف باللام فيقتضي أن بعثة كل النبيئين كانت بعد أن كان الناس أمة واحدة بدليل الفاء ، والشرائع إنما تلقيت من الأنبياء ، فتعين أن كون الناس أمة واحدة شيء سابق على شرائع الأنبياء ولا يكون إلا مستفادا من العقل ، وهما يعنيان أن الله فطر الإنسان في أول نشأته على سلامة الفطرة من الخطأ والضلال ، قال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم وقيل : أريد بالناس آدم وحواء . نقله ابن عطية عن مجاهد وقوم ، والذي نجزم به أن هذا كان في زمن من أزمان وجود الناس على الأرض يعلمه الله تعالى لقوله وقرونا بين ذلك كثيرا والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح ، وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحا أول الرسل إلى أهل الأرض ، فيظهر أن الضلال [ ص: 303 ] حدث في أهل الأرض وعمهم عاجلا فبعث الله نوحا إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحا ونفرا معه فأصبح جميع الناس صالحين ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين .

فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك .

الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشئوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلا اختلافا قليلا ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافرا ولا تغالبا .

ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم .

فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسما وعقلا وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه ، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين ، وحواء خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقا مشابها لخلق آدم ، إذ أنها خلقت كما خلق آدم ، قال تعالى خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم .

ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتى للبشر أن يتصرف في خصائصه ، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها .

هكذا كان شأن الذكر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها ، ألم تر كيف اهتدى أحد بني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكان الاستنباط الفكري والتقليد به أس الحضارة البشرية .

فالصلاح هو الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهرا ليس بالقصير ، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين ، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرو أو معدومته ، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب : [ ص: 304 ] الأولى : خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفا عن الفضيلة لتلك العاهة .

الثاني : اكتساب رذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها .

الثالث : خواطر خيالية تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها .

الرابع : صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة ، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعا .

فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة ، والأول كان نادر الحدوث في البشر ، لأن سلامة الأبدان وشباب واعتدال الطبيعة وبساطة العيش ونظام البيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني ، ألا ترى أن نوع كل حيوان يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره .

والثاني كان غير موجود ، لأن البشر يومئذ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف .

والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف ، والشفقة الناشئة عن الأخوة ، والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حجبا لما يهجس من هذا الإحساس .

والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر ، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة ، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة .

أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلا فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل; لأن البشر لم يعرف الموت إلا يومئذ ولذلك أسرعت إليه الندامة ، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذ أو هو الغالب عليها .

[ ص: 305 ] وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل ، لأن النسل منسل من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخلقية والخلقية ، ولما كان النسل منسلا من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصلا على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساوية المظاهر لأحوال سلفه ، قال نوح عليه السلام في عكسه ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاح ما نقله في الكشاف عن ابن عباس : أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق .

ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلا قليلا خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعا لاختلاف بين حالي الأب والأم ، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم ، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذ أسباب الانحطاط الأربعة ، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي ، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل ، والتاريخ الديني دلنا على أن نوحا أول الرسل الذين دعوا إلى الله تعالى قال تعالى شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا الآية ، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته ايتوا نوحا أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع ، وأن آدم لم يكن رسولا وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب أبناءه ويعلمهم بالجزاء .

فقوله تعالى ( فبعث الله النبيئين ) هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله كان الناس أمة واحدة مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم ) أمة واحدة دام مدة ثم انقضى ، فيكون مفرعا على جملة مقدرة تقديرها : فاختلفوا فبعث الله النبيئين ، وعلى الوجه الآخر مفرعا على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحا ، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق وعلى الثاني : يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه; فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك ، وإنما كان مرشدا كما يرشد المربي عائلته .

والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله وأنزل معهم الكتاب بالحق والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل [ ص: 306 ] ذميم الفعال ، وقد عبد قوم نوح الأصنام ، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في جبال نوذ من بلاد الهند كما قيل ، وفي البخاري عن ابن عباس : أن ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا كانوا من صالحي قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اهـ . ، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم ، وقيل إن سواعا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن يغوث ونسر ابن يعوق ، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال ، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلا بمزيد الاحتراز ، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة .

وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو حمورابي ويظن المؤرخون أنه كان معاصرا لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في سفر التكوين باسم " ملكي صادق " الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له .

والبعث : الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبيء بتبليغ الشريعة للأمة .

و ( النبيئين ) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم ، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه ، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء ، والقرآن يذكر في الغالب النبيء مرادا به الرسول ، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلا الله تعالى قال تعالى وقرونا بين ذلك كثيرا وقال وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح . وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر .

والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله " بعث " وبقرينة الحال في قوله : مبشرين ومنذرين ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله وأنزل معهم الكتاب بالحق الآية .

[ ص: 307 ] فالتعريف في النبيين للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني .

والبشارة : الإعلام بخير حصل أو سيحصل ، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل ، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع .

فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد ، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم ، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون ، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم ، وتعليم من يرونه أهلا لعلم الخير من الأمة .

ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة ، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العبسي نبيا في عبس من العرب .

وقوله : وأنزل معهم الكتاب ، الإنزال : حقيقته تدلية الجسم من علو إلى سفل ، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه ، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة .

وأضاف " مع " إلى ضمير " النبيئين " إضافة مجملة واختير لفظ " مع " دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولمن جاء مؤيدا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى .

والكتاب هو المكتوب ، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها ، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى الم ذلك الكتاب على أحد الوجهين المتقدمين هنالك ، وقد يكون مجازا على الوجه الآخر ، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية

والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان ، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة ، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى إنني معكما أسمع وأرى وفي الحديث : ومعك روح القدس .

والتعريف في الكتاب للاستغراق : أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها [ ص: 308 ] وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع ، فالمعنى أنزل مع كل نبيء كتابه ، وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك .

وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب ، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء ، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جميع النبيئين; فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد ، وجوز صاحب الكشاف كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه .

والضمير في ليحكم راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي ، لأنه مبين ما به الحكم ، أو فعل " يحكم " مجاز في البيان .

ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة ; أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم ، وإسناد الحكم مجاز عقلي ، لأنه المسبب له والآمر بالقضاء به ، وتعدية يحكم ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه .

وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه ، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهار الحق ، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلا عن ضلال أو خطأ ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية