الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر بيعة العقبة الثانية

لما فشا الإسلام في الأنصار اتفق جماعة منهم على المسير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مستخفين لا يشعر بهم أحد ، فساروا إلى مكة في الموسم في ذي الحجة مع كفار قومهم واجتمعوا به وواعدوه أوسط أيام التشريق بالعقبة .

فلما كان الليل خرجوا بعد مضي ثلثه ، مستخفين يتسللون حتى اجتمعوا بالعقبة ، وهم سبعون رجلا ، معهم امرأتان : نسيبة بنت كعبأم عمارة وأسماء أم عمرو بن عدي من بني سلمة وجاءهم رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب ، وهو كافر أحب أن يتوثق لابن أخيه ، فكان العباس أول من تكلم فقال : يا معشر الخزرج ، وكانت العرب تسمي الخزرج والأوس به ، إن محمدا منا حيث قد علمتم في عز ومنعة ، وإنه قد أبى إلا الانقطاع إليكم ، فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه ومانعوه فأنتم وذلك ، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة .

فقال الأنصار : قد سمعنا ما قلت ، فتكلم يا رسول الله وخذ لنفسك وربك ما أحببت .

[ ص: 692 ] فتكلم وتلا القرآن ، ورغب في الإسلام ثم قال : تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم .

ثم أخذ البراء بن معرور بيده ثم قال : والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا ، فبايعنا يا رسول الله ، فنحن والله أهل الحرب .

فاعترض الكلام أبو الهيثم بن التيهان فقال : يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالا ، وإنا قاطعوها ، يعني اليهود ، فهل عسيت إن أظهرك الله - عز وجل - أن ترجع إلى قومك وتدعنا ؟ .

فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : بل الدم الدم ، والهدم الهدم ، أنتم مني وأنا منكم ، أسالم من سالمتم وأحارب من حاربتم . وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أخرجوا إلي اثني عشر نقيبا يكونون على قومهم " ، فأخرجوهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس .

وقال لهم العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري : يا معشر الخزرج هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ؟ تبايعونه على حرب الأحمر والأسود ، فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتلا أسلمتموه ، فمن الآن فهو والله خزي الدنيا والآخرة ، وإن كنتم ترون أنكم وافون له فخذوه ، فهو والله خير الدنيا والآخرة .

قالوا : فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف ، فما لنا بذلك يا رسول الله ؟ قال : الجنة . قالوا : ابسط يدك ، فبايعوه .

وما قال العباس بن عبادة ذلك إلا ليشد العقد له عليهم . وقيل : بل قاله ليؤخر الأمر ليحضر عبد الله بن أبي بن سلول فيكون أقوى لأمر القوم .

فكان أول من بايعه أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وقيل : أبو الهيثم بن التيهان ، وقيل : البراء بن معرور . ثم تتابع القوم فبايعوا ، فلما بايعوه صرخ الشيطان من رأس العقبة : يا [ ص: 693 ] أهل الجباجب ، هل لكم في مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أما والله لأفرغن لك أي عدو الله ! " ثم قال : " ارفضوا إلى رحالكم " فقال له العباس بن عبادة : والذي بعثك بالحق نبيا لئن شئت لنميلن غدا على أهل منى بأسيافنا . فقال : " لم نؤمر بذلك " ، فرجعوا .

فلما أصبحوا جاءهم جلة قريش فقالوا : قد بلغنا أنكم جئتم إلى صاحبنا تستخرجونه وتبايعونه على حربنا ، وإنه والله ما من حي من أحياء العرب أبغض إلينا أن تنشب بيننا وبينهم الحرب منكم . فحلف من هنالك من مشركي الأنصار ما كان هذا شيء .

فلما سار الأنصار من مكة قال البراء بن معرور : يا معشر الخزرج ! قد رأيت أن لا أستدبر الكعبة في صلاتي . فقالوا له : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستقبل الشام ، فنحن لا نخالفه ، فكان يصلي إلى الكعبة ، فلما قدم مكة سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال : لقد كنت على قبلة لو صبرت عليها . فرجع إلى قبلة رسول الله . فلما بايعوه ورجعوا إلى المدينة ، كان قدومهم في ذي الحجة ، فأقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة بقية ذي الحجة والمحرم وصفر ، وهاجر إلى المدينة في شهر ربيع الأول ، وقدمها لاثني عشرة ليلة خلت منه .

وقد كانت قريش لما بلغهم إسلام من أسلم من الأنصار ، اشتدوا على من بمكة من المسلمين ، وحرصوا على أن يفتنوهم ، فأصابهم جهد شديد ، وهي الفتنة الآخرة ، وأما الأولى فكانت قبل هجرة الحبشة .

وكانت البيعة في هذه العقبة على غير الشروط في العقبة الأولى ، فإن الأولى كانت على بيعة النساء ، وهذه البيعة كانت على حرب الأحمر والأسود .

ثم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بالهجرة إلى المدينة ، فكان أول من قدمها أبو سلمة بن عبد الأسد ، وكانت هجرته قبل البيعة بسنة ، ثم هاجر بعده عامر بن ربيعة حليف بني عدي مع امرأته ليلى ابنة أبي حثمة ! ثم عبد الله بن جحش ومعه أخوه أبو أحمد [ ص: 694 ] وجميع أهله ، فأغلقت دارهم ، وتتابع الصحابة ، ثم هاجر عمر بن الخطاب وعياش بن أبي ربيعة فنزلا في بني عمرو بن عوف ، وخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام إلى عياش بن أبي ربيعة بالمدينة ، وكان أخاهما لأمهما ، فقال له : إن أمك قد نذرت أنها لا تستظل ولا تمتشط . فرق لها وعاد . وتتابع الصحابة بالهجرة إلى أن هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية