الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 224 ] وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون

انتقل من خبر نوح إلى خبر إبراهيم ؛ لمناسبة إنجاء إبراهيم من النار كإنجاء نوح من الماء . وفيه تنبيه إلى عظم القدرة ، إذ أنجت من الماء ومن النار .

و إبراهيم عطف على نوح . والتقدير : وأرسلنا إبراهيم .

و إذ ظرف متعلق بـ أرسلنا المقدر ، أي في وقت قوله لقومه : اعبدوا الله إلخ ، وهو أول زمن دعوته . واقتضى قوله : اعبدوا الله أنهم لم يكونوا عابدين لله أصلا .

وجملة ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون تعليل للأمر بعبادة الله . وقد أجمل الخبر في هذه الجملة وفصل بقوله : إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا الآية .

ومعنى إن كنتم تعلمون إن كنتم تعلمون أدلة اختصاص الله بالإلهية . فمفعول العلم محذوف لدلالة ما قبله عليه . ويجوز جعل فعل تعلمون منزلا منزلة اللازم ، أي إن كنتم أهل علم ونظر .

وجملة إنما تعبدون من دون الله أوثانا تعليل لجملة اعبدوا الله . وقصرهم على عبادة الأوثان يجوز أن يكون قصرا على عبادتهم الأوثان ، أي دون أن يعبدوا الله ، فهو قصر حقيقي ، إذ كان قوم إبراهيم لا يعبدون الله ، فالقصر منصب على قوله : من دون الله أي إنما تعبدون غير الله ، وبذلك يكون من دون الله حالا من أوثانا ، أي حال كونها معبودة من دون الله ، وهذا مقابل قوله : اعبدوا الله دون أن يقول لهم : لا تعبدوا إلا الله ; لكن قوم إبراهيم قد وصفوا بالشرك في قوله تعالى في سورة الأنعام : قال يا قوم إني بريء مما تشركون فهم مثل مشركي العرب ، فالقصر منصب على عبادتهم الموصوفة بالوثنية ، أي ما [ ص: 225 ] تعبدون إلا صورا لا إدراك لها ، فيكون قصر قلب لإبطال اعتقادهم إلهية تلك الصور كما قال تعالى : قال أتعبدون ما تنحتون .

وعلى كلا الوجهين يتخرج معنى قوله : من دون الله فإن " دون " يجوز أن تكون بمعنى " غير " فتكون " من " زائدة ، والمعنى : تعبدون أوثانا غير الله . ويجوز أن تكون كلمة " دون " اسما للمكان المباعد ، فهي إذن مستعارة لمعنى المخالفة ، فتكون " من " ابتدائية ، والمعنى : تعبدون أوثانا موصوفة بأنها مخالفة لصفات الله .

والأوثان : جمع وثن - بفتحتين - وهو صورة من حجر أو خشب مجسمة على صورة إنسان أو حيوان . والوثن أخص من الصنم ؛ لأن الصنم يطلق على حجارة غير مصورة مثل أكثر أصنام العرب ، كصنم ذي الخلصة لخثعم ، وكانت أصنام قوم إبراهيم صورا ، قال تعالى : قال أتعبدون ما تنحتون . وتقدم وصف أصنامهم في سورة الأنبياء .

وتخلقون مضارع خلق الخبر ، أي اختلقه ، أي كذبه ووضعه ، أي وتضعون لها أخبارا ومناقب وأعمالا مكذوبة موهومة .

والإفك : الكذب ، وتقدم في قوله : إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم في سورة النور .

وجملة إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا إن كان قوم إبراهيم يعترفون لله تعالى بالإلهية والخلق والرزق ولكنهم يجعلون له شركاء في العبادة ليكونوا لهم شفعاء كحال مشركي العرب - تكون الجملة تعليلا لجملة اعبدوا الله واتقوه أي هو المستحق للعبادة التي هي شكر على نعمه ، وإن كان قومه لا يثبتون إلهية لغير أصنامهم كانت جملة إن الذين تعبدون من دون الله مستأنفة ابتدائية إبطالا لاعتقادهم أن آلهتهم ترزقهم ، ويرجح هذا الاحتمال التفريع في قوله : فابتغوا عند الله الرزق . وقد تقدم في سورة الشعراء التردد في حال إشراك قوم إبراهيم ، وكذلك في سورة الأنبياء .

وتنكير رزقا في سياق النفي يدل على عموم نفي قدرة أصنامهم على كل رزق ولو قليلا . وتفريع الأمر بابتغاء الرزق من الله إبطال لظنهم الرزق من أصنامهم ، [ ص: 226 ] أو تذكير بأن الرازق هو الله ، فابتغاء الرزق منه يقتضي تخصيصه بالعبادة كما دل عليه عطف واعبدوه واشكروا له . وقد سلك إبراهيم مسلك الاستدلال بالنعم الحسية ؛ لأن إثباتها أقرب إلى أذهان العموم .

و " عند " ظرف مكان وهو مجاز . شبه طلب الرزق من الله بالبحث عن شيء في مكان يختص به ، فاستعير له " عند " الدالة على المكان المختص بما يضاف إليه الظرف .

وعدي الشكر باللام جريا على أكثر استعماله في كلام العرب لقصد إفادة ما في اللام من معنى الاختصاص أي الاستحقاق .

ولام التعريف في الرزق لام الجنس المفيدة للاستغراق بمعونة المقام ، أي فاطلبوا كل رزق قل أو كثر من الله دون غيره . والمعرف بلام الجنس في قوة النكرة ، فكأنه قيل : فابتغوا عند الله رزقا ، ولذلك لم تكن إعادة لفظ الرزق بالتعريف مقتضية كونه غير الأول ، فلا تنطبق هنا قاعدة النكرة ، إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى .

وجملة إليه ترجعون تعليل للأمر بعبادته وشكره ، أي لأنه الذي يجازي على ذلك ثوابا وعلى ضده عقابا ؛ إذ إلى الله لا إلى غيره مرجعكم بعد الموت ، وفي هذا إدماج تعليل العبادة بإثبات البعث .

التالي السابق


الخدمات العلمية