الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      والوالدات يرضعن أولادهن أمر أخرج مخرج الخبر مبالغة، ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بما إذا لم يرتضع الصبي إلا من أمه أو لم يوجد له ظئر أو عجز الوالد عن الاستئجار والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لاستعطافهن نحو أولادهن، والحكم عام للمطلقات وغيرهن كما يقتضيه الظاهر، وخصه بعضهم بالوالدات المطلقات، وهو المروي عن مجاهد وابن جبير وزيد بن أسلم، واحتج عليه بأمرين: الأول أن الله - تعالى - ذكر هذه الآية عقيب آيات الطلاق، فكانت من تتمتها، وإنما أتمها بذلك؛ لأنه إذا حصلت الفرقة ربما يحصل التعادي والتباغض، وهو يحمل المرأة غالبا على إيذاء الولد نكاية بالمطلق وإيذاء له، وربما رغبت في التزوج بآخر، وهو كثيرا ما يستدعي إهمال أمر الطفل وعدم مراعاته، فلا جرم أمرهن على أبلغ وجه برعاية جانبه والاهتمام بشأنه، والثاني أن إيجاب [ ص: 146 ] الرزق والكسوة فيما بعد للمرضعات يقتضي التخصيص؛ إذ لو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا الرضاع، وقال الواحدي: الأولى أن يخص بالوالدات حال بقاء النكاح؛ لأن المطلقة لا تستحق الكسوة، وإنما تستحق الأجرة، ولا يخفى أن الحمل على العموم أولى، ولا يفوت الغرض من التعقيب، وإيجاب الرزق والكسوة للمرضعات لا يقتضي التخصيص؛ لأنه باعتبار البعض على أنه على ما قيل: ليس في الآية ما يدل على أنه للرضاع، ومن قال: إنه له جعل ذلك أجرة لهن، إلا أنه لم يعبر بها وعبر بمصرفها الغالب حثا على إعطائها نفسها لذلك أو إعطاء ما تصرف لأجله، فتدبر.

                                                                                                                                                                                                                                      حولين أي: عامين، والتركيب يدور على الانقلاب، وهو منصوب على الظرفية، و كاملين صفته، ووصف بذلك تأكيدا لبيان أن التقدير تحقيقي لا تقريبي مبني على المسامحة المعتادة لمن أراد أن يتم الرضاعة بيان للمتوجه عليه الحكم، والجار في مثله خبر لمحذوف؛ أي: ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة، وجوز أن يكون متعلقا بـ يرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة للأم والأم ترضع له، وكون الرضاع واجبا على الأب لا ينافي أمرهن؛ لأنه للندب، أو لأنه يجب عليهن أيضا في الصور السابقة. واستدل بالآية على أن أقصى مدة الإرضاع حولان، ولا يعتد به بعدهما، فلا يعطى حكمه، وأنه يجوز أن ينقص عنهما، وقرئ ( أن يتم ) بالرفع، واختلف في توجيهه، فقيل: حملت (أن) المصدرية على ما أختها في الإهمال، كما حملت أختها عليها في الإعمال في قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : "كما تكونوا يولى عليكم" على رأي، وقيل: أن يتموا بضمير الجمع، باعتبار معنى (من)، وسقطت الواو في اللفظ لالتقاء الساكنين فتبعها الرسم.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى المولود له أي: الوالد، فإن الولد يولد له وينسب إليه، ولم يعبر به، مع أنه أخصر وأظهر للدلالة على علة الوجوب، بما فيه من معنى الانتساب المشيرة إليه اللام، وتسمى هذه الإشارة إدماجا عند أهل البديع وإشارة النص عندنا، وقيل: عبر بذلك؛ لأن الوالد قد لا تلزمه النفقة، وإنما تلزم المولود له، كما إذا كانت تحته أمة فأتت بولد، فإن نفقته على مالك الأم؛ لأنه المولود له دون الوالد، وفيه بعد؛ لأن المولود له لا يتناول الوالد والسيد تناولا واحدا، وحكم العبيد دخيل في البين. رزقهن وكسوتهن أي: إيصال ذلك إليهن؛ أي: الوالدات أجرة لهن، واستئجار الأم جائز عند الشافعي، وعندنا لا يجوز ما دامت في النكاح أو العدة بالمعروف أي: بلا إسراف ولا تقتير، أو حسب ما يراه الحاكم ويفي به وسعه.

                                                                                                                                                                                                                                      لا تكلف نفس إلا وسعها تعليل لإيجاب المؤمن بالمعروف أو تفسير للمعروف، ولهذا فصل، وهو نص على أنه - تعالى - لا يكلف العبد بما لا يطيقه، ولا ينفي الجواز والإمكان الذاتي، فلا ينتهض حجة للمعتزلة، ونصب وسعها على أنه مفعول ثان لــ تكلف ، وقرئ: (ولا تكلف) بفتح التاء، و(لا نكلف) بالنون. لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده تفصيل لما يفهم من سابقه وتقريب له إلى الفهم، وهو الداعي للفصل، والمضارة مفاعلة من الضرر، والمفاعلة إما مقصودة والمفعول محذوف؛ أي: تضار والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به، وتطلب ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد أن ألفها الصبي اطلب له ظئرا مثلا، ولا يضار مولود له امرأته بسبب ولده؛ بأن يمنعها شيئا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها، أو يأخذ الصبي منها وهي تريد إرضاعه أو يكرهها على الإرضاع، وإما غير مقصودة، والمعنى [ ص: 147 ] لا يضر واحد منهما الآخر بسبب الولد، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب: (لا تضار) بالرفع، فتكون الجملة بمنزلة بدل الاشتمال مما قبلها، وقرأ الحسن: (تضار) بالكسر، وأصله تضار مكسور الراء مبنيا للفاعل، وجوز فتحها مبنيا للمفعول، ويبين ذلك أنه قرئ: (ولا تضارر)، (ولا تضارر) بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها، وعلى تقدير البناء للمفعول يكون المراد النهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وأن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، والباء على كل تقدير سببية، ولك أن تجعل (فاعل) بمعنى (فعل) والباء سيف خطيب، ويكون المعنى: لا تضر والدة ولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده وتفرط فيما ينبغي له وتدفعه إلى الأب بعدما ألفها، ولا يضر الوالد ولده بأن ينزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حقه، وقرأ أبو جعفر: (لا تضار) بالسكون مع التشديد على نية الوقف، وعن الأعرج: (لا تضار) بالسكون والتخفيف، وهو من ضار يضير، ونوى الوقف كما نواه الأول، وإلا لكان القياس حذف الألف، وعن كاتب عمر - رضي الله تعالى عنه- : (لا تضرر)، والتعبير بالولد في الموضعين، وإضافته إليها تارة وإليه أخرى للاستعطاف، والإشارة إلى ما هو كالعلة في النهي، ولذا أقام المظهر مقام المضمر، ومن غريب التفسير ما رواه الإمامية عن السيدين الصادق والباقر - رضي الله تعالى عنهما - : أن المعنى (لا تضار) والدة بترك جماعها خوف الحمل لأجل ولدها الرضيع، (ولا يضار) مولود له بمنعه عن الجماع كذلك لأجل ولده، وحينئذ تتعين الباء للسببية، ويجب أن يكون الفعلان مبنيين للمفعول، ولا يظهر وجه لطيف للتعبير بالولد في الموضعين، وتخرج الآية عما يقتضيه السياق، وبعيد عن الباقر والصادق الإقدام على ما زعمه هذا الراوي الكاذب.

                                                                                                                                                                                                                                      وعلى الوارث مثل ذلك عطف على قوله تعالى: وعلى المولود له إلخ وما بينهما تعليل أو تفسير معترض، والمراد بالوارث وارث الولد، فإنه يجب عليه مثل ما وجب على الأب من الرزق والكسوة بالمعروف إن لم يكن للولد مال، وهو التفسير المأثور عن عمر وابن عباس وقتادة ومجاهد وعطاء وإبراهيم والشعبي وعبد الله بن عتبة وخلق كثير، ويؤيده أن (أل) كالعوض عن المضاف إليه الضمير ورجوع الضمير لأقرب مذكور وهو الأكثر في الاستعمال، وخص الإمام أبو حنيفة هذا الوارث بمن كان ذا رحم محرم من الصبي، وبه قال حماد، ويؤيده قراءة ابن مسعود: (وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك)، وقيل: عصباته، وبه قال أبو زيد، ويروى عن عمر - رضي الله تعالى عنه - ما يؤيده، وقال الشافعي: المراد وارث الأب، وهو الصبي؛ أي: مؤن الصبي من ماله إذا مات الأب، واعترض أن هذا الحمل يأباه أنه لا يخص كون المؤنة في ماله إذا مات الأب، بل إذا كان له مال لم يجب على الأب أجرة الإرضاع، بل يجب عليه النفقة على الصبي وأجرة الإرضاع من مال الصبي بحكم الولاية، وفيه نظر، وقيل: المراد الباقي من الأبوين، وقد جاء الوارث بمعنى الباقي كما في قوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "اللهم متعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث مني"، قيل : وهذا يوافق مذهب الشافعي؛ إذ لا نفقة عنده فيما عدا الولاد، ولا يخفى ما في ذلك من البحث؛ لأن (من) إن كانت للبيان لزم التكرار أو الركاكة أو ارتكاب خلاف الظاهر، وإن كانت للابتداء كان المعنى الباقي غير الأبوين، وهو يجوز أن يكون من العصبات أو ذوي الأرحام الذين ليست قرابتهم قرابة الولاد، وكون ذلك موافقا لمذهب الشافعي إنما يتأتى إذا تعين كون الباقي ذوي قرابة الولاد، وليس في اللفظ ما يفيده كما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      فإن أرادا أي: الوالدان فصالا أي: فطاما للولد قبل الحولين، وهو المروي عن مجاهد وقتادة وأهل البيت، وقيل: قبلهما أو بعدهما، وهو مروي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - وعلى الأول يكون هذا تفصيلا لفائدة لمن أراد أن يتم وبيانا لحكم إرادة عدم الإتمام، والتنكير للإيذان بأنه (فصال) غير معتاد، وعلى الثاني توسعة في الزيادة والتقليل في مدة [ ص: 148 ] الرضاعة بعد التحديد والتنكير للتعميم، ويجوز على القولين أن يكون للإشارة إلى عظمه نظرا للصبي لما فيه من مفارقة المألوف عن تراض متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن، وإن كان كونا خاصا؛ أي صادرا عن تراض وجوز أن يتعلق بـ أراد منهما؛ أي: الوالدين، لا من أحدهما فقط لاحتمال إقدامه على ما يضر الولد، بأن تمل الأم أو يبخل الأب وتشاور في شأن الولد وتفحص أحواله، وهو مأخوذ من الشور، وهو اجتناء العسل، وكذا المشاورة والمشورة، والمراد من ذلك استخراج الرأي وتنكيره للتفخيم.

                                                                                                                                                                                                                                      فلا جناح عليهما في ذلك، وإنما اعتبر رضا المرأة، مع أن ولي الولد هو الأب، وصلاحه منوط بنظره مراعاة لصلاح الطفل؛ لأن الوالدة لكمال شفقتها على الصبي ربما ترى ما فيه المصلحة له وإن أردتم خطاب للآباء هزا لهم للامتثال على تقدير عدم الاتفاق على عدم الفطام أن تسترضعوا أولادكم بحذف المفعول الأول استغناء عنه؛ أي: تسترضعوا المراضع أولادكم، من أرضعت المرأة طفلا واسترضعتها إياه؛ كقولك: أنجح الله - تعالى - حاجتي واستنجحتها إياه، وقد صرح الإمام الكرماني بأن الاستفعال قد جاء لطلب المزيد كالاستنجاء لطلب الإنجاء والاستعتاب لطلب الإعتاب، وصرح به غيره أيضا، فلا حاجة إلى القول بأنه من رضع بمعنى أرضع، ولم يجعل من الأول أول الأمر لعدم وجوده في كلامهم، فإنه بمعزل عن التحقيق، وقيل: إن (استرضع) إنما يتعدى إلى الثاني بحرف الجر، يقال: (استرضعت) المرأة للصبي، والمراد أن (تسترضعوا) المراضع (لأولادكم) فحذف الجار، كما في قوله تعالى: وإذا كالوهم أي: كالوا لهم فلا جناح عليكم أي: في ذلك، واستدل بالإطلاق على أن للزوج أن يسترضع للولد ويمنع الزوجة من الإرضاع، وهو مذهب الشافعية، وعندنا أن الأم أحق برضاع ولدها، وأنه ليس للأب أن يسترضع غيرها إذا رضيت أن ترضعه؛ لقوله تعالى: والوالدات يرضعن أولادهن وبه يخصص هذا الإطلاق، وإلى ذلك يشير كلام ابن شهاب إذا سلمتم إلى المراضع ما آتيتم أي: ضمنتم والتزمتم أو أردتم إتيانه؛ لئلا يلزم تحصيل الحاصل، وقرأ ابن كثير: (أتيتم) من أتى إليه إحسانا إذا فعله، وشيبان عن عاصم: (أوتيتم) أي: ما آتاكم الله - تعالى - وأقدركم عليه من الأجرة بالمعروف متعلق بـ سلمتم ؛ أي بالوجه المتعارف المستحسن شرعا، وجوز أن يتعلق بـ آتيتم ، وأن يكون حالا من فاعله أو فاعل الفعل الذي قبله، وجواب الشرط محذوف دل عليه ما قبله، وليس التسليم شرطا لرفع الإثم، بل هو الأولى والأصلح للطفل، فشبه ما هو من شرائط الأولية بما هو من شرائط الصحة للاعتناء به، فاستعير له عبارته، وقيل: لا حاجة إلى هذا؛ لأن نفي الإثم بتسليم الأجرة مطلقا غير مقيد بتقديمها عليه؛ يعني: لا جناح عليكم في الاسترضاع لو لم تأثموا بالتعدي في الأجرة وتظلموا الأجير، وفيه تأمل؛ لأن الإثم إذا لم يسلم بعد إنما هو بالتعدي، والاسترضاع كان قبل خاليا عما يوجب الإثم، واتقوا الله في شأن مراعاة الأحكام، واعلموا أن الله بما تعملون بصير 233 لا تخفى عليه أعمالكم فيجازيكم عليها، وفي إظهار الاسم الجليل تربية للمهابة، وفي الآية من التهديد ما لا يخفى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية