الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        واختلف في حقيقة : فقيل : هو دليل ينقدح في نفس المجتهد ، ويعسر عليه التعبير عنه .

                        وقيل : هو العدول عن قياس إلى قياس أقوى .

                        وقيل : هو العدول عن الحكم إلى العادة لمصلحة الناس .

                        قيل : تخصيص قياس بأقوى منه .

                        [ ص: 689 ] ونسب القول به إلى أبي حنيفة ، وحكي عن أصحابه ، ونسبه إمام الحرمين إلى مالك ، وأنكره القرطبي فقال : ليس معروفا من مذهبه ، وكذلك أنكر أصحاب أبي حنيفة ما حكي عن أبي حنيفة من القول به ، وقد حكي عن الحنابلة .

                        قال ابن الحاجب في المختصر : قالت به الحنفية ، والحنابلة ، وأنكره غيرهم انتهى .

                        وقد أنكره الجمهور ، حتى قال الشافعي : من استحسن فقد شرع .

                        قال الروياني : معناه أنه ينصب من جهة نفسه شرعا غير الشرع .

                        وفي رواية عن الشافعي أنه قال : القول بالاستحسان باطل .

                        وقال الشافعي في الرسالة : الاستحسان تلذذ ، ولو جاز لأحد الاستحسان في الدين ; لجاز ذلك لأهل العقول من غير أهل العلم ، ولجاز أن يشرع في الدين في كل باب ، وأن يخرج كل أحد لنفسه شرعا .

                        قال جماعة من المحققين : الحق أنه لا يتحقق استحسان مختلف فيه ; لأنهم ذكروا في تفسيره أمورا لا تصلح للخلاف ; لأن بعضها مقبول اتفاقا ، وبعضها متردد بين ما هو مقبول اتفاقا ، وما هو مردود اتفاقا ، وجعلوا من صور الاتفاق على القبول قول من قال إن الاستحسان العدول عن قياس إلى قياس أقوى ، وقول من قال : إنه تخصيص قياس بأقوى منه ، وجعلوا من المتردد بين القبول والرد قول من قال : " إنه دليل ينقدح في نفس المجتهد ، ويعسر عليه التعبير عنه " ; لأنه إن كان معنى قوله : " ينقدح " أنه يتحقق ثبوته ، فالعمل به واجب عليه ، ( فهو مقبول ) اتفاقا ، وإن كان بمعنى أنه شاك ، فهو مردود اتفاقا ، إذ لا تثبت الأحكام بمجرد الاحتمال والشك .

                        وجعلوا من المتردد أيضا قول من قال : إنه العدول عن حكم الدليل إلى العادة لمصلحة الناس . فقالوا : إن كانت العادة هي الثابتة في زمن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد ثبت بالسنة ، وإن كانت هي الثابتة في عصر الصحابة ، من غير إنكار ، فقد ثبت بالإجماع ، وأما غيرها فإن كان نصا وقياسا ، مما ثبت حجيته ، فقد ثبت ذلك به ، وإن كان شيئا آخر ، لم تثبت حجيته ، فهو مردود قطعا .

                        [ ص: 690 ] وقد ذكر الباجي أن الاستحسان الذي ذهب إليه أصحاب مالك هو القول بأقوى الدليلين ، كتخصيص بيع العرايا من بيع الرطب بالتمر .

                        قال : وهذا هو الدليل ، فإن سموه استحسانا فلا مشاحة في التسمية .

                        وقال الأبياري : الذي يظهر من مذهب مالك القول بالاستحسان ، لا على ما سبق بل حاصله استعمال مصلحة جزئية في مقابلة قياس كلي ، فهو يقدم الاستدلال المرسل على القياس .

                        ومثاله : لو اشترى سلعة بالخيار ، ثم مات وله ورثة ، فقيل : يرد ، وقيل : يختار الإمضاء .

                        قال أشهب : القياس الفسخ ، ولكنا نستحسن إن أراد الإمضاء ، أن يأخذ من لم يمض ، إذا امتنع البائع من قبوله نصيب الراد .

                        قال ابن السمعاني : إن كان الاستحسان هو القول بما يستحسنه الإنسان ، ويشتهيه من غير دليل ; فهو باطل ، ولا أحد يقول به ، ثم ذكر أن الخلاف لفظي ، ثم قال : فإن تفسير الاستحسان بما يشنع به عليهم لا يقولون به ( والذي يقولون به أنه العدول في الحكم من ) دليل إلى دليل أقوى منه ، فهذا مما لم ينكره ( أحد عليه ) ، لكن هذا الاسم لا يعرف اسما لما ( يقال به ) وقد سبقه إلى مثل هذا القفال ، فقال : إن كان المراد بالاستحسان ما دلت الأصول بمعانيها ، فهو حسن ; لقيام الحجة به ، قال : فهذا لا ننكره ونقول به ، وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشيء واستحسانه ، من غير حجة دلت عليه ، من أصل ونظير ، فهو محظور ، والقول به غير سائغ .

                        قال بعض المحققين : الاستحسان كلمة يطلقها أهل العلم على ضربين :

                        ( أحدهما ) : واجب الإجماع ، وهو أن يقدم الدليل الشرعي ، أو العقلي ، لحسنه ، [ ص: 691 ] فهذا يجب العمل به ; لأن الحسن ما حسنه الشرع ، والقبيح ما قبحه الشرع .

                        ( والضرب الثاني ) : أن يكون على مخالفة الدليل ، مثل أن يكون الشيء محظورا بدليل شرعي ، وفي عادات الناس ( إباحته ، أو يكون في الشرع دليل يغلظه ، وفي عادات الناس التخفيف ) فهذا عندنا يحرم القول به ، ويجب اتباع الدليل ، وترك العادة والرأي ، سواء كان ذلك الدليل نصا ، أو إجماعا ، أو قياسا انتهى .

                        فعرفت بمجموع ما ذكرنا أن ذكر الاستحسان في بحث مستقل لا فائدة فيه أصلا ، لأنه إن كان راجعا إلى الأدلة المتقدمة فهو تكرار ، وإن كان خارجا عنها فليس من الشرع في شيء ، بل هو من التقول على هذه الشريعة بما لم يكن فيها تارة ، وبما يضادها أخرى .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية