الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 296 ] باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : { لا حلف في الإسلام وتمسكوا بحلف الجاهلية } .

1614 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي وابن أبي مريم جميعا ، قالا : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ، قال : حدثني أبي ، عن سعد بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن جبير بن مطعم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة } .

1615 - حدثنا أحمد بن شعيب ، قال : أنبأنا عبد الرحمن بن محمد بن سلام الطرسوسي ، قال : حدثنا إسحاق الأزرق ، عن زكريا بن أبي زائدة ، عن سعد بن إبراهيم ، عن نافع بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

[ ص: 297 ] فاختلف يحيى بن زكريا وإسحاق بن يوسف على زكريا بن أبي زائدة في إسناد هذا الحديث على ما ذكرنا في اختلافهما فيه . والله أعلم بالصواب في ذلك غير أن الذي تميل إليه القلوب فيه ما رواه عليه يحيى بن زكريا لثبته وحفظه وجلالة مقداره في العلم حتى لقد قال يحيى القطان فيه : ما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا حرب بن سريج النقال ، قال : سمعت يحيى بن سعيد يقول : ما بالكوفة أحد أثقل علي خلافا من يحيى بن زكريا ، وكفى برجل يقول فيه يحيى بن سعيد مثل هذا القول .

1616 - حدثنا الربيع بن سليمان المرادي ، قال : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن مغيرة ، عن أبيه ، عن شعبة بن التوأم الضبي قال : { سأل قيس بن عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف ، قال : لا حلف في الإسلام ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية } .

[ ص: 298 ] فقال قائل : كيف تقبلون هذا وأنتم تروون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنه قد حالف في الإسلام بينالمهاجرين والأنصار .

1617 - فذكر ما قد حدثناه المزني ، قال : حدثنا محمد بن إدريس الشافعي ، عن سفيان بن عيينة ، قال : حدثنا عاصم الأحول ، عن أنس بن مالك ، قال : { حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا ، فقيل له : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا حلف في الإسلام ، فقال : حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا } . قال سفيان : فسرته العلماء آخى بينهم .

قال : فلم يلتفت هذا المعارض الذي ذكرنا إلى ما حكيناه له ، عن ابن عيينة ، عن العلماء الذين حكاه عنهم ، وقال : قد جاء كتاب الله عز وجل بما يخبر أنه قد كانت محالفة في الإسلام ، وذكر قول الله عز وجل :

[ ص: 299 ] ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم ، فكان جوابنا له في ذلك - بتوفيق الله عز وجل وعونه - أن الذي تلاه علينا من كتاب الله كما تلاه ، ولكن الله عز وجل قد نسخه .

وذلك ، أن أحمد بن شعيب حدثنا ، قال : أخبرنا هارون بن عبد الله - وهو الحمال - قال : حدثنا أبو أسامة ، قال : حدثني إدريس بن يزيد ، قال : حدثنا طلحة بن مصرف ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله عز وجل : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم . قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة تورث الأنصار دون رحمه للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت الآية : ولكل جعلنا موالي مما ترك نسختها والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم من النصر والنصيحة والرفادة ويوصي له ، وقد ذهب الميراث .

[ ص: 300 ] فأخبر ابن عباس رضي الله عنه ، أن هذه الآية قد نسخها غيرها - يعني أنه نسخها قول الله عز وجل : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، فأخبر ابن عباس في حديثه هذا ، أن الذي بقي لهم - يعني الأحلاف - بعد نزول هذه الآية هو النصر والنصيحة والوصية وأن الميراث قد ذهب . قال : فإذا جمع ما في هذا الحديث ، وما في حديث أنس بن مالك دل أنه قد كان هناك تحالف ، ووكد ذلك قول الله عز وجل : والذين عقدت أيمانكم . قال : ففي هذا ما قد خالف ما قد رويتموه أن لا حلف في الإسلام . قيل له : ما خالفه ؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم : { لا حلف في الإسلام } ، إنما كان منه عند فتحه مكة .

1618 - كما حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، قال : حدثنا إبراهيم بن إسماعيل ، عن عبد الرحمن بن الحارث ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عمرو ، قال : { لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح قام خطيبا ، فقال : أيها الناس ، إنه ما كان من حلف في [ ص: 301 ] الجاهلية ، فإن الإسلام لم يزده إلا شدة ، ولا حلف في الإسلام } .

1619 - وكما حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا الوهبي ، قال : حدثنا ابن إسحاق ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله .

فأخبر عبد الله بن عمرو أن هذا القول إنما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة والذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار رضوان الله عليهم من المؤاخاة بينهم التي حالف بينهم فيها كان قبل ذلك بالمدينة ، وكان الذي كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم فتح مكة مما ذكره عبد الله بن عمرو ناسخا لذلك ، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم بعد قوله : { لا حلف في الإسلام } حلف إلى أن قبضه الله صلوات الله عليه .

[ ص: 302 ] فقال قائل : فقد روي عن سعيد بن المسيب في تأويل قول الله عز وجل : والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم خلاف ما رويتموه عن عبد الله بن عباس في ذلك ،

وذكر ما قد حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، قال : قال الله عز وجل : ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم .

قال ابن المسيب : إنما نزلت هذه الآية للذين يتبنون رجالا غير آبائهم ، فيورثونهم ، فأنزل الله عز وجل فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية ، وجعل الميراث للرحم والعصبة ، وأبى الله عز وجل أن يجعل للمدعين ميراثا ، ممن ادعاهم وتبناهم ، ولكن جعل لهم نصيبا في الوصية مكان ما تعاقدوا فيه من الميراث ، الذي رد الله عز وجل فيه أمرهم .


فكان جوابنا له في ذلك ، بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أن الذي رويناه عن عبد الله بن عباس في ذلك عندنا أولى بتأويل الآية ، والله أعلم .

بل في الآية ما قد دل على ما قال ابن عباس ، وعلى خلاف من [ ص: 303 ] خالفه ؛ لأن فيها : { : والذين عاقدت أيمانكم .

وقد كان التحالف فيه أيمان ، والتدعي والتبني لم يكن فيهما أيمان ، فكان ذلك معقولا به أن التأويل الذي ذكره عبد الله بن عباس في هذه الآية أولى مما ذكره غيره في تأويلها ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية