الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وقوله سبحانه : وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين

                                                                                                                                                                                                                                      فاستجبنا له ووهبنا له يحيى [الأنبياء : 90] إذ لم يكن سؤال نوح عليه السلام بطريق الإيماء مع أنه قال تعالى في قصته [ ص: 86 ] فنجيناه بالفاء وزكريا عليه السلام لم يصدر منه ما يعد ذنبا بالنسبة إليه ليتلطف في سؤال عدم المؤاخذة مع أنه قال سبحانه في قصته ووهبنا بالواو فلا بد حينئذ من بيان نكتة غير ما ذكر للتعبير في كل موضع من هذين الموضعين بما عبر ، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما ذكره الشهاب في الآية الأخيرة ، وربما يقال : إنه جيء بالفاء التفصيلية في قصتي نوح وأيوب عليهما السلام اعتناء بشأن الاستجابة لمكان الإجمال والتفصيل لعظم ما كانا فيه وتفاقمه جدا ، ألا ترى كيف يضرب المثل ببلاء أيوب عليه السلام حيث كان في النفس والأهل والمال واستمر إلى ما شاء الله تعالى وكيف وصف الله تعالى ما نجى الله سبحانه منه نوحا عليه السلام حيث قال عز وجل فنجيناه وأهله من الكرب العظيم ولا كذلك ما كان فيه ذو النون وزكريا عليهما السلام بالنسبة إلى ذلك فلذا جيء في آيتيهما بالواو وهي وإن جاءت للتفسير لكن مجيء الفاء لذلك أكثر . ولا يبعد عندي ما ذكره الخفاجي في هذه الآية من كون الاستجابة عبارة عن قبول توبته عليه السلام والتنجية زيادة إحسان على مطلوبه ويقال فيما سيأتي ما ستسمعه إن شاء الله تعالى وكذلك أي مثل ذلك الإنجاء الكامل ننجي المؤمنين من غموم دعوا الله تعالى فيها بالإخلاص لا إنجاء أدنى منه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الجحدري ( ننجي ) مشددا مضارع نجى . وقرأ ابن عامر وأبو بكر ( نجي ) بنون واحدة مضمومة وتشديد الجيم وإسكان الياء ، واختار أبو عبيدة هذه القراءة على القراءة بنونين لكونها أوفق بالرسم العثماني لما أنه بنون واحدة ، وقال أبو علي في الحجة : روي عن أبي عمر و ( نجي ) بالإدغام والنون لا تدغم في الجيم وإنما أخفيت لأنها ساكنة تخرج من الخياشيم فحذفت من الكتاب وهي في اللفظ ، ومن قال : تدغم فقد غلط لأن هذه النون تخفى مع حروف الفم وتسمى الأحرف الشجرية وهي الجيم والشين والضاد وتبيينها لحن فلما أخفي ظن السامع أنه مدغم انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال أبو الفتح ابن جني : أصله ( ننجي ) كما في قراءة الجحدري فحذفت النون الثانية لتوالي المثلين والأخرى جيء بها لمعنى والثقل إنما حصل بالثانية وذلك كما حذفت التاء الثانية في تظاهرون [الأحزاب : 4] ولا يضر كونها أصلية وكذا لا يضر عدم اتحاد حركتها مع حركة النون الأولى فإن الداعي إلى الحذف اجتماع المثلين مع تعذر الإدغام فقول أبي البقاء : إن هذا التوجيه ضعيف لوجهين ، أحدهما أن النون الثانية أصل وهي فاء الكلمة فحذفها يبعد جدا ، والثاني أن حركتها غير حركة النون الأولى فلا يستثقل الجمع بينهما بخلاف ( تظاهرون ) ليس في حيز القبول ، وإنما امتنع الحذف في تتجافى [السجدة : 16] لخوف اللبس بالماضي بخلاف ما نحن فيه لأنه لو كان ماضيا لم يسكن آخره ، وكونه سكن تخفيفا خلاف الظاهر ، وقيل هو فعل ماض مبني لما لم يسم فاعله وسكنت الياء للتخفيف كما في قراءة من قرأ وذروا ما بقي من الربا [البقرة : 278] وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      هو الخليفة فارضوا ما رضي لكم ماضي العزيمة ما في حكمه جنف

                                                                                                                                                                                                                                      ونائب الفاعل ضمير المصدر والمؤمنين مفعول به ، وقد أجاز قيام المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به الأخفش والكوفيون وأبو عبيد ، وخرجوا على ذلك قراءة أبي جعفر ليجزي قوما [الجاثية : 14] وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      ولو ولدت فقيرة جرو كلب     لسب بذلك الكلب الكلابا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 87 ] والمشهور عن البصريين أنه متى وجد المفعول به لم يقم غيره مقام الفاعل ، وقيل إن ( المؤمنين ) منصوب بإضمار فعل أي وكذلك نجي هو أي الانجاء ننجي المؤمنين ، وقيل هو منصوب بضمير المصدر والكل كما ترى وزكريا أي واذكر خبره عليه السلام إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا أي وحيدا بلا ولد يرثني كما يشعر به التذييل بقوله تعالى : وأنت خير الوارثين ولو كان المراد بلا ولد يصاحبني ويعاونني لقيل وأنت خير المعينين ، والمراد بقوله تعالى : وأنت خير الوارثين وأنت خير حي يبقى بعد ميت ، وفيه مدح له تعالى بالبقاء وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء ، وفي ذلك استمطار لسحائب لطفه عز وجل ، وقيل أراد بذلك رد الأمر إليه سبحانه كأنه قال : إن لم ترزقني ولدا يرثني فأنت خير وارث فحسبي أنت .

                                                                                                                                                                                                                                      واعترض بأنه لا يناسب مقام الدعاء إذ من آداب الداعي أن يدعو بجد واجتهاد وتصميم منه .

                                                                                                                                                                                                                                      ففي الصحيحين عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إذا دعا أحدكم فلا يقل: اللهم اغفر لي إن شئت ارحمني إن شئت ارزقني إن شئت ليعزم مسألته فإن الله تعالى يفعل ما يشاء لا مكره له» .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية في صحيح مسلم «ولكن ليعزم المسألة وليعزم الرغبة فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء أعطاه»
                                                                                                                                                                                                                                      ويمكن أن يقال : ليس هذا من قبيل ارزقني إن شئت إذ ليس المقصود منه إلا إظهار الرضا والاعتماد على الله عز وجل لو لم يجب دعاءه وليس المقصود من ارزقني إن شئت ذلك فتأمل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية