الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                [ ص: 656 ] كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر فكيف كان عذابي ونذر ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر

                                                                                                                                                                                                "قبلهم" قبل أهل مكة فكذبوا عبدنا يعني نوحا. فإن قلت: ما معنى قوله تعالى: "فكذبوا" بعد قوله: "كذبت"؟ قلت: معناه: كذبوا فكذبوا عبدنا أي: كذبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلما مضى منهم قرن مكذب تبعه قرن مكذب، أو كذبت قوم نوح الرسل فكذبوا عبدنا، أي: لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا; لأنه من جملة الرسل "مجنون" هو مجنون "وازدجر" وانتهروه بالشتم والضرب والوعيد بالرجم في قولهم لتكونن من المرجومين [الشعراء: 116] وقيل: هو من جملة قيلهم، أي: قالوا هو مجنون، وقد ازدجرته الجن وتخبطته وذهبت بلبه وطارت بقلبه. قرئ: (أني) بمعنى: فدعا بأني مغلوب، وإني: على إرادة القول، فدعا فقال: إني مغلوب غلبني قومي، فلم يسمعوا مني واستحكم اليأس من إجابتهم لي "فانتصر" فانتقم منهم بعذاب تبعثه عليهم، وإنما دعا بذلك بعد ما طم عليه الأمر وبلغ السيل الربا، فقد روى: أن الواحد من أمته كان يلقاه فيخنقه حتى يخر مغشيا عليه. فيفيق وهو يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا [ ص: 657 ] يعلمون. وقرئ: (ففتحنا) مخففا ومشددا، وكذلك وفجرنا "منهمر" منصب في كثرة وتتابع لم ينقطع أربعين يوما وفجرنا الأرض عيونا وجعلنا الأرض كلها كأنها عيون تتفجر، وهو أبلغ من قولك: وفجرنا عيون الأرض ونظيره في النظم واشتعل الرأس شيبا [مريم: 4]. فالتقى الماء يعني مياه السماء والأرض. وقرئ: (الماآن)، أي: النوعان من الماء السماوي والأرضي. ونحوه قولك: عندي تمران، تريد: ضربان من التمر: برني ومعقلي. قال [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                لنا إبلان فيهما ما علمتم



                                                                                                                                                                                                وقرأ الحسن: (الماوان)، بقلب الهمزة واوا، كقولهم: علباوان على أمر قد قدر على حال قدرها الله كيف شاء. وقيل: على حال جاءت مقدرة مستوية: وهي أن قدر ما أنزل من السماء كقدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. وقيل: على أمر قد قدر في اللوح أنه يكون، وهو هلاك قوم نوح بالطوفان على ذات ألواح ودسر أراد السفينة، وهي من الصفات التي تقوم مقام الموصوفات فتنوب منابها وتودي مؤداها. بحيث لا يفصل بينها وبينها. ونحوه [من الخفيف]:

                                                                                                                                                                                                . .. .. .. ..

                                                                                                                                                                                                ولكنـ ـن قميصي مسرودة من حديد



                                                                                                                                                                                                أراد: ولكن قميصي درع، وكذلك [من الطويل]:

                                                                                                                                                                                                [ ص: 658 ]

                                                                                                                                                                                                ولو في عيون النازيات بأكرع



                                                                                                                                                                                                أراد: ولو في عيون الجراد. ألا ترى أنك لو جمعت بين السفينة وبين هذه الصفة، أو بين الدرع والجراد وهاتين الصفتين، لم يصح، وهذا من فصيح الكلام وبديعه. والدسر: جمع دسار: وهو المسمار، فعال من دسره إذا دفعه; لأنه يدسر به منفذه "جزاء" مفعول له لما قدم من فتح أبواب السماء وما بعده، أي: فعلنا ذلك جزاء، لمن كان كفر وهو نوح -عليه السلام-، وجعله مكفورا; لأن النبي نعمة من الله ورحمة. قال الله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [الأنبياء: 107] فكان نوح -عليه السلام- نعمة مكفورة، ومن هذا المعنى ما يحكى أن رجلا قال للرشيد: الحمد لله عليك، فقال: ما معنى هذا الكلام؟ قال: أنت نعمة حمدت الله عليها. ويجوز أن يكون على تقدير حذف الجار وإيصال الفعل. وقرأ قتادة : (كفر)، أي: جزاء للكافرين. وقرأ الحسن: (جزاء) بالكسر، أي: مجازاة. الضمير في "تركناها" للسفينة، أو للفعلة، أي: جعلناها آية يعتبر بها. وعن قتادة : أبقاها الله بأرض الجزيرة. وقيل: على الجودي دهرا طويلا، حتى نظر إليها أوائل هذه الأمة. والمدكر: المعتبر. وقرئ: (مذتكر) على الأصل. و (مذكر)، بقلب التاء ذالا وإدغام الذال فيها. وهذا نحو: مذجر. والنذر: جمع نذير وهو الإنذار ولقد يسرنا القرآن للذكر أي سهلناه للادكار والاتعاظ، بأن شحناه بالمواعظ الشافية وصرفنا فيه من الوعد والوعيد فهل من متعظ. وقيل: ولقد سهلناه للحفظ وأعنا عليه من أراد حفظه، فهل من طالب لحفظه ليعان عليه. ويجوز أن يكون المعنى: ولقد هيأناه للذكر، من يسر ناقته للسفر: إذا رحلها، ويسر فرسه للغزو، إذا أسرجه وألجمه. قال [من الطويل]:


                                                                                                                                                                                                وقمت إليه باللجام ميسرا     هنالك يجزيني الذي كنت أصنع



                                                                                                                                                                                                [ ص: 659 ] ويروى: أن كتب أهل الأديان نحو التوراة والإنجيل لا يتلوها أهلها إلا نظرا ولا يحفظونها ظاهرا كما القرآن.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية