الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 260 ] باب الحلف بأسماء الله وصفاته ، والنهي عن الحلف بغير الله تعالى

                                                                                                                                            3816 - ( عن ابن عمر قال : { كان أكثر ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحلف : لا ومقلب القلوب } رواه الجماعة إلا مسلما ) .

                                                                                                                                            3817 - ( وفي حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال : انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها فيها ، فنظر إليها فرجع فقال : لا وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها } )

                                                                                                                                            3818 - ( وفي حديث لأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { يبقى رجل بين الجنة والنار فيقول : يا رب اصرف وجهي عن النار ، لا وعزتك لا أسألك غيرها } متفق عليهما )

                                                                                                                                            3819 - ( وفي حديث اغتسال أيوب { بلى وعزتك ولكن لا غنى لي عن بركتك } ) .

                                                                                                                                            3820 - ( وعن قتيلة بنت صيفي { أن يهوديا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنكم تنددون وإنكم تشركون ، تقولون ما شاء الله وشئت ، وتقولون الكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا : رب الكعبة ، ويقول أحدهم ما شاء الله ثم شئت } رواه أحمد والنسائي )

                                                                                                                                            3821 - ( وعن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر وهو يحلف بأبيه فقال : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم ، فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت } متفق عليه .

                                                                                                                                            وفي لفظ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } فكانت قريش تحلف بآبائها ، فقال : { لا تحلفوا بآبائكم } رواه أحمد ومسلم والنسائي )

                                                                                                                                            [ ص: 261 ] وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تحلفوا إلا بالله ، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون } رواه النسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث قتيلة أخرجه أيضا ابن ماجه وصححه النسائي . وحديث أبي هريرة الآخر أخرجه أيضا أبو داود والنسائي وابن حبان والبيهقي .

                                                                                                                                            وفي الصحيحين عن ابن عمر رفعه { من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله } وفي الباب عن ابن عمر رفعه { من حلف بغير الله فقد كفر } أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والحاكم وصححه ، ويروى أنه قال : " فقد أشرك " وهو عند أحمد من هذا الوجه ، وكذا عند الحاكم ورواه الترمذي وابن حبان من هذا الوجه أيضا بلفظ " فقد كفر وأشرك " قال البيهقي : لم يسمعه سعد بن عبيدة من ابن عمر . قال الحافظ : قد رواه شعبة عن منصور عنه قال : كنت عند ابن عمر . ورواه الأعمش عن سعيد عن عبد الرحمن السلمي عن ابن عمر قوله : ( لا ومقلب القلوب ) لا : نفي للكلام السابق ، ومقلب القلوب هو المقسم به ، والمراد بتقليب القلوب : تقليب أحوالها لا ذواتها ، وفيه جواز تسمية الله بما ثبت من صفاته على وجه يليق به

                                                                                                                                            قال القاضي أبو بكر بن العربي في الحديث : جواز الحلف بأفعال الله تعالى إذا وصف بها ولم يذكر اسمه تعالى . وفرق الحنفية بين القدرة والعلم فقالوا : إن حلف بقدرة الله تعالى انعقدت يمينه وإن حلف بعلم الله لم تنعقد ; لأن العلم يعبر به عن المعلوم كقوله تعالى : { قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا } ؟ والجواب أنه هنا مجاز إن سلم أن المراد به المعلوم والكلام إنما هو في الحقيقة

                                                                                                                                            قال الراغب : تقليب الله القلوب والأبصار : صرفها عن رأي إلى رأي . قال ويعبر بالقلب عن المعاني التي تختص به من الروح والعلم والشجاعة قوله : ( فقال : وعزتك ) هذا طرف من الحديث الذي فيه { إن الجنة حفت بالمكاره والنار بالشهوات } وذكره المصنف رحمه اللههنا للاستدلال به على الحلف بعزة الله

                                                                                                                                            قال ابن بطال : العزة يحتمل أن تكون صفة ذات بمعنى القدرة والعظمة ، وأن تكون صفة فعل بمعنى القهر لمخلوقاته والغلبة لهم وبذلك صحت الإضافة . قال : ويظهر الفرق بين الحالف بعزة الله : أي التي هي صفة لذاته ، والحالف بعزة الله التي هي صفة لفعله بأنه يحنث في الأول دون الثاني

                                                                                                                                            قال الحافظ : وإذا أطلق الحالف انصرف إلى صفة الذات وانعقدت اليمين قوله : ( لا وعزتك لا أسألك غير هذا ) هذا طرف من الحديث الطويل في صفة الحشر ، ومحل الحجة منه هذا اللفظ المذكور ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ذلك مقررا له فكان دليلا على جواز الحلف بذلك قوله : ( بلى وعزتك ) هو طرف من حديث طويل وأوله " أن أيوب كان [ ص: 262 ] يغتسل فخر عليه جراد من ذهب " ووجه الدلالة منه أن أيوب لا يحلف إلا بالله ، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عنه وأقره قوله : ( ولكن لا غنى لي عن بركتك ) بكسر الغين المعجمة والقصر كذا للأكثر

                                                                                                                                            ووقع لأبي ذر عن غير الكشميهني بفتح أوله والمد والأول أولى فإن معنى الغناء بالفتح والمد الكفاية يقال ما عند فلان غناء : أي ما يغتني به قوله : ( تنددون ) أي تجعلون لله أندادا وتشركون : أي تجعلون لله شركاء ، وفيه النهي عن الحلف بالكعبة ، وعن قول الرجل ما شاء الله وشئت ، ثم أمرهم أن يأتوا بما لا تنديد فيه ولا شرك فيقولون ورب الكعبة ، ويقولون ما شاء الله ثم شئت

                                                                                                                                            وحكى ابن التين عن أبي جعفر الداودي أنه قال : ليس في الحديث نهي عن القول المذكور . وقد قال الله تعالى : { وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله } وقال تعالى : { وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه } وغير ذلك . وتعقبه بأن الذي قاله أبو جعفر ليس بظاهر لأن قوله ما شاء وشئت تشريك في مشيئته تعالى

                                                                                                                                            وأما الآية فإنما أخبر الله أنه أغناهم وأن رسوله أغناهم وهو من الله حقيقة لأنه الذي قدر ذلك ومن الرسول صلى الله عليه وسلم حقيقة باعتبار تعاطي الفعل وكذا الإنعام أنعم الله على زيد بن حارثة بالإسلام . وأنعم عليه النبي صلى الله عليه وسلم بالعتق ، وهذا بخلاف المشاركة في المشيئة فإنها منفردة لله سبحانه وتعالى بالحقيقة ، وإذا نسبت لغيره فبطريق المجاز قوله : { إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم } في رواية للترمذي من حديث ابن عمر " أنه سمع رجلا يقول : لا والكعبة فقال : لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك } قال الترمذي : حسن وصححه الحاكم ، والتعبير بقوله : " كفر أو أشرك " للمبالغة في الزجر والتغليظ في ذلك

                                                                                                                                            وقد تمسك به من قال بالتحريم قوله : ( فليحلف بالله أو ليصمت ) قال العلماء : السر في النهي عن الحلف بغير الله أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه ، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده ، فلا يحلف إلا بالله وذاته وصفاته ، وعلى ذلك اتفق الفقهاء

                                                                                                                                            واختلف هل الحلف بغير الله حرام أو مكروه ؟ للمالكية والحنابلة قولان ، ويحمل ما حكاه ابن عبد البر من الإجماع على عدم جواز الحلف بغير الله على أن مراده بنفي الجواز الكراهة أعم من التحريم والتنزيه . وقد صرح بذلك في موضع آخر . وجمهور الشافعية على أنه مكروه تنزيها ، وجزم ابن حزم بالتحريم . قال إمام الحرمين : المذهب القطع بالكراهة ، وجزم غيره بالتفصيل ، فإن اعتقد في المحلوف به ما يعتقد في الله تعالى كان بذلك الاعتقاد كافرا

                                                                                                                                            ومذهب الهادوية أنه لا إثم في الحلف بغير الله ما لم يسو بينه وبين الله في التعظيم أو كان الحالف متضمنا كفرا أو فسقا ، وسيأتي الكلام على من يكفر بحلفه قال في الفتح : وأما ما ورد في القرآن من القسم بغير الله ففيه جوابان : أحدهما [ ص: 263 ] أن فيه حذفا ، والتقدير ورب الشمس ونحوه

                                                                                                                                            والثاني أن ذلك يختص بالله فإذا أراد تعظيم شيء من مخلوقاته أقسم به وليس لغيره ذلك . وأما ما وقع مما يخالف ذلك كقوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي : { أفلح وأبيه إن صدق } فقد أجيب عنه بأجوبة : الأول : الطعن في صحة هذه اللفظة كما قال ابن عبد البر إنها غير محفوظة ، وزعم أن أصل الرواية أفلح والله فصحفها بعضهم

                                                                                                                                            والثاني : إن ذلك كان يقع من العرب ويجري على ألسنتهم من دون قصد للقسم ، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحلف ، قاله البيهقي وقال النووي : إنه الجواب المرضي . والثالث : إنه كان يقع في كلامهم على وجهين للتعظيم والتأكيد ، والنهي إنما وقع عن الأول . والرابع : أن ذلك كان جائزا ثم نسخ ، قاله الماوردي ، وقال السهيلي : أكثر الشراح عليه

                                                                                                                                            قال ابن العربي : وروي { أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه حتى نهي عن ذلك } قال السهيلي : ولا يصح لأنه لا يظن بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحلف بغير الله . ويجاب بأنه قبل النهي عنه غير ممتنع عليه ولا سيما والأقسام القرآنية على ذلك النمط . وقال المنذري : دعوى النسخ ضعيفة لإمكان الجمع ولعدم تحقق التاريخ . والخامس : إنه كان في ذلك حذف ، والتقدير أفلح ورب أبيه قاله البيهقي

                                                                                                                                            والسادس : إنه للتعجيب ، قاله السهيلي . والسابع : أنه خاص به صلى الله عليه وسلم وتعقب بأن الخصائص لا تثبت بالاحتمال . وأحاديث الباب تدل على أن الحلف بغير الله لا ينعقد ، لأن النهي يدل على فساد المنهي عنه ، وإليه ذهب الجمهور . وقال بعض الحنابلة : إن الحلف بنبينا صلى الله عليه وسلم ينعقد وتجب الكفارة .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية