الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 304 ] 265 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يفعل على المزاح مما يروع المفعول به ، هل هو مباح لفاعله أو محظور عليه ؟

1620 - حدثنا علي بن معبد وأبو أمية جميعا ، قالا : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا زمعة بن صالح ، قال سمعت ابن شهاب يحدث ، عن عبد الله بن وهب بن زمعة ، عن أم سلمة ، { أن أبا بكر رضي الله عنه خرج تاجرا إلى بصرى ومعه نعيمان وسويبط بن حرملة ، وكان سويبط على الزاد فجاءه نعيمان ، فقال : أطعمني . قال : لا ، حتى يأتي أبو بكر ، وكان نعيمان رجلا مضحاكا مزاحا ، فقال : لأغيظنك .

فذهب إلى أناس جلبوا ظهرا ، فقال : ابتاعوا مني غلاما عربيا فارها ، وهو رعاد ولسان ، ولعله يقول : أنا حر ، فإن كنتم تاركيه لذلك فدعوه لي ، لا تفسدوا علي غلامي ، فقالوا : بل نبتاعه منك بعشرة قلائص ، فأقبل بها يسوقها ، وأقبل بالقوم حتى عقلها ، ثم قال : دونكم هذا ، فجاء القوم ، فقالوا : قد اشتريناك ، فقال سويبط : هو كاذب ، أنا رجل حر . قالوا : قد أخبرنا خبرك ، فطرحوا الحبل في عنقه وأخذوه ، فذهبوا به ، فجاء أبو بكر ، فذهب هو وأصحاب [ ص: 305 ] له ، فرد القلائص وأخذوه ، قال : فضحك منها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا
} .

فقال قائل : في هذا الحديث ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، مما ذكر فيه مما فعله نعيمان بسويبط حولا .

ففي ذلك دليل على إباحة ترويع المسلم المسلم على المزاح بمثل هذا .

قال هذا القائل : ومثل هذا ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير هذا الحديث .

1621 - فذكر ما قد حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا عفان بن مسلم ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، قال : حدثنا محمد بن عمرو ، عن عمر بن الحكم ، [ ص: 306 ] عن أبي سعيد الخدري ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل علقمة بن مجزز المدلجي على خيبر ، فبعث سرية ، واستعمل عليها عبد الله بن حذافة السهمي - وكان رجلا فيه دعابة وبين أيديهم نار قد أججت - فقال لأصحابه : أليس طاعتي عليكم واجبة . قالوا : بلى . قال : فقوموا فاقتحموا هذه النار ، فقام رجل حتى يدخلها ، فضحك ، وقال : إنما كنت ألعب .

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فضحك ، فقال : أما إذا قد فعلوا هذا فلا تطيعوهم في معصية الله عز وجل
} .

1622 - وما قد حدثنا يوسف بن يزيد ، قال : حدثنا حجاج بن إبراهيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن محمد بن عمرو ، فذكر بإسناده مثله ، غير أنه قال : علقمة بن محزز بالحاء .

قال : ففي هذا الحديث أيضا مثل ما في الحديث الأول ، ولم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على فاعله ، ففي ذلك ما قد دل على إباحة مثله على المزاح .

[ ص: 307 ] فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أنه ليس في شيء من هذين الحديثين إباحة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكر فيهما أن يفعل مثله أحد بأحد ، وإنما في الحديث الأول منهما ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ذلك الفعل حولا .

كمثل ما قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتحدثون بأمور الجاهلية ، فيضحك أصحابه من ذلك بمحضره من غير نهي منه إياهم عن ذلك ، وإن كانت تلك الأفعال ليس بمباح لهم فعل مثلها في الإسلام .

1623 - كما قد حدثنا علي بن معبد ، قال : حدثنا يونس بن محمد ، قال : أخبرنا شريك بن عبد الله ، عن سماك بن حرب ، عن جابر بن سمرة ، قال : { جالست النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكثر من مائة مرة ، فكان أصحابه يتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فربما يتبسم معهم } .

وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنع من ترويع المسلم .

1624 - ما قد حدثنا يزيد بن سنان ، قال : حدثنا أبو بكر الحنفي ، قال : حدثنا ابن أبي ذئب ، عن عبد الله بن السائب بن يزيد ، عن أبيه ، عن جده أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا يأخذ أحدكم متاع [ ص: 308 ] صاحبه لاعبا ، وإذا أخذ أحدكم عصا صاحبه فليردها إليه } .

قال أبو جعفر : والسائب أبو عبد الله بن السائب هذا هو السائب بن يزيد الكندي أحد بني عمرو بن معاوية حليف في قريش ، وهو ابن أخت النمر .

فقال قائل : فما الدليل على نسخ أحد هذين المعنيين بالآخر منهما ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أن الدليل على المنسوخ منه .

1625 - ما قد حدثنا سليمان بن شعيب الكيساني ، قال : حدثنا خالد بن عبد الرحمن الخراساني ، قال : حدثنا فطر بن خليفة ، عن عبد الله بن يسار الجهني [ ص: 309 ] عن أبي ليلى الأنصاري ، قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فأخذ بعض أصحابه كنانة رجل ، فغيبوها ليمزحوا معه ، فطلبها الرجل ، ففقدها ، فراعه ذلك ، فجعلوا يضحكون منه ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما أضحككم ؟ قالوا : لا والله ، إلا أنا أخذنا كنانة فلان لنمزح معه ، فراعه ذلك ، فذلك الذي أضحكنا .

، فقال : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما
} .

ففي هذا الحديث ذكر ما فعله الرجل المذكور فيه من أخذ كنانة صاحبه ليرتاع بفقدها على ، أن ذلك عنده مباح له ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : لا يحل لمسلم أن يروع مسلما ، فكان قوله ذلك له بعد فعله ما فعله ، مما هو من جنس ما كان فعله نعيمان بسويبط ، وما كان فعله عبد الله بن حذافة في حديث علقمة المدلجي بأصحابه ليضحكوا من ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : في حديث أبي ليلى لفاعل [ ص: 310 ] ما ذكر فعله إياه فيه : { لا يحل لمسلم أن يروع مسلما } ، فكان ذلك تحريما منه لمثل ذلك ، ونسخا لما كان قد تقدمه ، مما ذكرناه في هذا الباب ، مما تعلق به من تعلق ممن يذهب إلى إباحة مثله إن كان مباحا حينئذ ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية