الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        صفحة جزء
                        ولنذكر هاهنا فوائد لها بعض اتصال بمباحث الاستدلال

                        الفائدة الأولى

                        في قول الصحابي

                        اعلم أنهم قد اتفقوا على أن قول الصحابي في مسائل الاجتهاد ليس بحجة على صحابي آخر ، وممن نقل هذا الاتفاق القاضي أبو بكر ، والآمدي ، وابن الحاجب وغيرهم .

                        واختلفوا هل يكون حجة على من بعد الصحابة من التابعين ، ومن بعدهم ، على أقوال :

                        [ ص: 695 ] ( الأول ) : أنه ليس بحجة مطلقا ، وإليه ذهب الجمهور .

                        ( الثاني ) : أنه حجة شرعية ، مقدمة على القياس ، وبه قال أكثر الحنفية ونقل عن مالك وهو قول الشافعي .

                        ( الثالث ) : أنه حجة إذا انضم إليه القياس ، فيقدم حينئذ على قياس ليس معه قول الصحابي ، وهو ظاهر قول الشافعي في الرسالة .

                        قال : وأقوال الصحابة إذا تفرقوا نصير منها إلى ما وافق الكتاب ، أو السنة ، أو الإجماع ، أو ما كان أصح في القياس ، وإذا قال واحد منهم القول لا يحفظ عن غيره منهم له فيه موافقة ولا مخالفة ; صرت إلى اتباع قول واحدهم إذا لم أجد كتابا ، ولا سنة ، ولا إجماعا ، ولا شيئا يحكم له بحكمه ، أو وجد معه قياس انتهى .

                        وحكى القاضي حسين ، وغيره من أصحاب الشافعي عنه أنه يرى في الجديد أن قول الصحابي حجة ، إذا عضده القياس ، وكذا حكاه عنه القفال الشاشي ، وابن القطان .

                        قال القاضي في التقريب : إنه قاله الشافعي في الجديد واستقر عليه مذهبه وحكاه عنه المزني ، وابن أبي هريرة .

                        ( الرابع ) : أنه حجة إذا خالف القياس ; لأنه لا محمل له إلا التوقيف ، وذلك أن القياس والتحكم في دين الله باطل ، فيعلم أنه لم يقلد إلا توقيفا .

                        قال ابن برهان في الوجيز : وهذا هو الحق المبين ، قال : ومسائل الإمامين أبي حنيفة والشافعي - رحمهما الله - تدل عليه انتهى .

                        [ ص: 696 ] ولا يخفاك أن الكلام في قول الصحابي إذا كان ما قاله من مسائل الاجتهاد ، أما إذا لم يكن منها ، ودل دليل على التوقيف ; فليس مما نحن بصدده ، والحق أنه ليس بحجة فإن الله سبحانه لم يبعث إلى هذه الأمة إلا نبينا محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ، وليس لنا إلا رسول واحد ، وكتاب واحد ، وجميع الأمة مأمورة باتباع كتابه وسنة نبيه ، ولا فرق بين الصحابة وبين من بعدهم ، في ذلك ، فكلهم مكلفون بالتكاليف الشرعية ، وباتباع الكتاب والسنة ، فمن قال : إنها تقوم الحجة في دين الله - عز وجل - بغير كتاب الله ، وسنة رسوله ، وما يرجع إليهما ، قد قال في دين الله بما لم يثبت ، وأثبت في هذه الشريعة الإسلامية شرعا لم يأمر الله به ، وهذا أمر عظيم ، وتقول بالغ فإن الحكم لفرد أو أفراد من عباد الله بأن قوله ، أو أقوالهم حجة على المسلمين يجب عليهم العمل بها وتصير شرعا ثابتا متقررا تعم به البلوى ، مما لا يدان الله - عز وجل - به ، ولا يحل لمسلم الركون إليه ، ولا العمل عليه ، فإن هذا المقام لم يكن إلا لرسل الله ، الذين أرسلهم بالشرائع إلى عباده لا لغيرهم ، وإن بلغ في العلم والدين وعظم المنزلة أي مبلغ ، ولا شك أن مقام الصحبة مقام عظيم ، ولكن ذلك في الفضيلة وارتفاع الدرجة ، وعظمة الشأن ، وهذا مسلم لا شك فيه ، ولهذا ( صار مد ) أحدهم لا ( تبلغ إليه ) من غيرهم الصدقة بأمثال الجبال ، ولا تلازم بين هذا وبين جعل كل واحد منهم بمنزلة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في حجية قوله ، وإلزام الناس باتباعه ، فإن ذلك مما لم يأذن الله به ، ولا ثبت عنه فيه حرف واحد .

                        [ ص: 697 ] وأما ما تمسك به بعض القائلين بحجية قول الصحابي ، مما روي عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم فهذا مما لم يثبت قط والكلام فيه معروف عند أهل هذا الشأن ، بحيث لا يصح العمل بمثله في أدنى حكم من أحكام الشرع ، فكيف مثل هذا الأمر العظيم والخطب الجليل ، على أنه لو ثبت من وجه صحيح ، لكان معناه أن مزيد عملهم بهذه الشريعة المطهرة الثابتة من الكتاب والسنة ، وحرصهم على اتباعها ومشيهم على طريقتها ، يقتضي أن اقتداء الغير بهم في العمل بها واتباعها هداية كاملة ; لأنه لو قيل لأحدهم لم قلت كذا ( أو لم ) فعلت كذا ، لم يعجز من إبراز الحجة من الكتاب والسنة ، ولم يتلعثم في بيان ذلك .

                        وعلى مثل هذا الحمل يحمل ما صح عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - من قوله : اقتدوا باللذين من بعدي ، أبي بكر وعمر وما صح عنه من قوله - صلى الله عليه وسلم - : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين الهادين .

                        فاعرف هذا ، واحرص عليه ، فإن الله لم يجعل إليك وإلى سائر هذه الأمة رسولا إلا محمدا - صلى الله عليه وآله وسلم - ، ولم يأمرك باتباع غيره ، ولا شرع لك على لسان سواه من أمته حرفا واحدا ، ولا جعل شيئا منه الحجة عليك في قول غيره ، كائنا من كان .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية