الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ثم قال الله (تعالى) في وصف القاذفين: وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ؛ الإشارة إلى الذين يرمون المحصنات؛ والإشارة إلى الموصوف بصفة؛ أو القائم بعمل؛ بين أن ذلك العمل هو سبب الحكم؛ فالقذف سبب الحكم بالفسق; لأنه في ذاته فسق في القول؛ وقد أكد - سبحانه وتعالى - الحكم بفسقهم - أولا - بالجملة الاسمية؛ و- ثانيا - بضمير الفصل " هم " ؛ و- ثالثا - بجعل الفسق وصفا لهم؛ و- رابعا - بقصرهم على الفسق؛ أي أنهم لا يخرجون من الفسق؛ فهم في دائرته؛ لا يخرجون عنها؛ فهم في شر مستمر دائم لا يخرجون عن دائرته قط؛ إلا إذا تابوا؛ ولذا قال (تعالى): إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم ؛ الاستثناء من الحكم باستغراق الفسق; لأن رحمة الله تتسع للعصاة الذين أذنبوا؛ ولذلك ترفع عن القاذفين عقوبة عدم قبول شهادة؛ وإن ذلك هو الذي يتفق مع المتبادر من السياق البياني للقرآن الكريم; إذ إن الأمر بعدم قبول الشهادة في آية منفردة عن هذه الآية؛ وهي أمر بهذا العقاب؛ معطوف على أمر بالعقاب البدني؛ وهما في جملتين إنشائيتين؛ والحكم بالفسق في جملة خبر.

                                                          والرأي الذي في المذهب الشافعي؛ الذي يجيز قبول الشهادة إن تابوا؛ قال: إن الاستثناء من الآيتين معا؛ وقد قلنا: إننا نميل إلى رأي الجمهور في الاستثناء من الحكم بالفسق فقط؛ لذكر كلمة " أبدا " ؛ وما كان قول الله لغوا؛ ولأنه المتبادر؛ ولأن منع قبول الشهادة لحق الناس؛ ولصيانة مجلس القضاء.

                                                          والاستثناء هو قوله (تعالى): إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا ؛ فالتوبة هي الإقلاع عن هذا؛ والعزم على ألا يعود إليه؛ والندم على ما وقع؛ وذلك بالشعور بالحسرة لوقوعه؛ ولا بد من الإصلاح بدل الإفساد والتخريب؛ فالذي تغير الفسق؛ [ ص: 5148 ] وذلك بأن يكون صالحا؛ وخصوصا أن الله - جل جلاله - سجل عليهم وصف الفسق؛ فلا يزيله إلا وصف الإصلاح.

                                                          وبين قبول توبتهم عن الفسق؛ فيقول - عز من قائل -: فإن الله غفور رحيم ؛ وقوله (تعالى): فإن الله غفور رحيم ؛ دليل على قبول التوبة; لأن الفاء كالواقعة في جواب الشرط؛ لتضمن التوبة والإصلاح معنى الشرط؛ والمعنى: فإن الله يقبل توبة هؤلاء الفاسقين؛ لأن الله غفور رحيم؛ يغفر الذنوب لمن يتوب من عباده؛ ويعفو عن السيئات؛ وذلك رحمة بعباده.

                                                          ونقرر أخيرا أن العقوبة بعدم قبول الشهادة أمر دنيوي نظم الله (تعالى) أهلية الشهادة؛ والحكم بها؛ وأما الغفران فأمره إلى الله (تعالى)؛ وهو الغفور الرحيم.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية