الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              367 [ ص: 483 ] (باب منه) وذكره النووي في الباب المتقدم

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 137 - 139 ج3 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة، فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله قال: أنتم أصحابي، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد، فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال: أرأيت لو أن رجلا له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء وأنا فرطهم على الحوض، ألا ليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعير الضال، أناديهم: ألا هلم، فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة) بضم الباء وفتحها، وكسرها؛ "ثلاث لغات". والكسر قليل.

                                                                                                                              (فقال: السلام عليكم، دار قوم مؤمنين) نصب "دار" على الاختصاص أو النداء المضاف. والأول أظهر.

                                                                                                                              ويصح "الخفض" على البدل من الكاف والميم في "عليكم".

                                                                                                                              [ ص: 484 ] والمراد بها على الأخيرين "الجماعة" أو "أهل الدار". وعلى الأول مثله أو المنزل.

                                                                                                                              "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون"، والاستثناء للتبرك، لا للشك.

                                                                                                                              ولامتثال أمر الله تعالى. أو هو عادة للمتكلم يحس به كلامه، أو عائد إلى اللحوق في هذا المكان. وقيل: أقوال أخرى ضعيفة.

                                                                                                                              "وددت أنا قد رأينا إخواننا" أي: في الحياة الدنيا. وقيل: بعد الموت. قاله عياض: والظاهر الأول.

                                                                                                                              قالوا: أولسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: "أنتم أصحابي":

                                                                                                                              ليس نفيا لأخوتهم، ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة.

                                                                                                                              فهؤلاء إخوة "صحابة"، والذين لم يأتوا بعد "إخوة" ليسوا بصحابة.

                                                                                                                              قاله الباجي؛ كما قال تعالى:

                                                                                                                              إنما المؤمنون إخوة . "وإخواننا الذي لم يأتوا بعد".

                                                                                                                              "فيه" جواز التمني في الخير، ولقاء الصلحاء، وأهل الفضل.

                                                                                                                              "وفيه" إطلاق الأخوة على جميع الأمة: أدناهم وأعلاهم.

                                                                                                                              "والأخوة"، إنما تكون من الجانبين. ومن هنا قال تعالى:

                                                                                                                              أخاهم صالحا ، أخاهم هودا .

                                                                                                                              [ ص: 485 ] قال عياض: ذهب ابن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان: إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة.

                                                                                                                              ومعنى قوله "خيركم قرني"، "خير الناس قرني" أي: السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة. وهم المرادون بالحديث.

                                                                                                                              وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم "وإن رآه وصحبه"، أو لم يكن له سابقة. ولا أثر في الدين؛ فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول، من يفضلهم، على ما دلت عليه الآثار.

                                                                                                                              قال عياض: وقد ذهب إلى هذا أيضا غيره من المتكلمين على المعاني. قال: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا. وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه مرة، وحصلت له مزية الصحبة، أفضل من كل من يأتي بعد. فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل.

                                                                                                                              قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

                                                                                                                              واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل (أحد) ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" هذا كلام القاضي؛ حكاه النووي؛ ولم يحاكم فيه بشيء.

                                                                                                                              وعندي: أن في هذا الحديث ذكر الأخوة والبشارة للأمة الأخيرة؛ وليس فيه من بيان المزية والفضيلة لهم على الصحابة شيء.

                                                                                                                              والمسألة [ ص: 486 ] هذه مشهورة عن ابن عبد البر؛ وفيها كلام وبحث لا يليق ذكره هاهنا.

                                                                                                                              ولعلنا تكلمنا عليها في بعض مؤلفاتنا "كالانتقاد" وغيره، فراجع.

                                                                                                                              "فقالوا: كيف تعرف من لم يأت بعد من أمتك يا رسول الله؟ فقال "أرأيت لو أن رجلا له خيلا غرا محجلة بين ظهري خيل دهم" واحده "أدهم" وهو الأسود "والدهمة" السواد "بهم" قيل: السود أيضا.

                                                                                                                              وقيل: الذي لا يخالط لونه لونا سواه؛ سواء كان أسود، أو أبيض، أو أحمر، بل يكون لونه خالصا.

                                                                                                                              وهذا قول "ابن السكيت"، "وأبي حاتم السجستاني" وغيرهما.

                                                                                                                              "ألا يعرف خيله؟" قالوا: بلى يا رسول الله! قال: "فإنهم يأتون غرا محجلين من الوضوء".

                                                                                                                              تقدم تفسير "الغرة"، "والتحجيل" وهذا موضع الترجمة.

                                                                                                                              "وأنا فرطهم على الحوض" قال الهروي وغيره: معناه: أنا أتقدمهم على الحوض.

                                                                                                                              يقال: "فرط القوم"، إذا تقدمهم ليرتاد لهم الماء ويهيئ لهم الدلاء والأرشاء.

                                                                                                                              وفي هذا الحديث بشارة لهذه الأمة. زادها الله شرفا وكثرة. فهنيئا لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فرطه.

                                                                                                                              [ ص: 487 ] "ألا ليذادن رجال عن حوضي، كما يذاد "البعير" الضال؛ أناديهم؛ ألا هلم!".

                                                                                                                              معناه: "تعالوا"، "وفيه" لغتان؛ أفصحهما للكل" بصيغة واحدة.

                                                                                                                              وبهذا جاء القرآن في قوله تعالى:

                                                                                                                              هلم شهداءكم ، والقائلين لإخوانهم هلم إلينا .

                                                                                                                              واللغة الثانية: هلم يا رجل. وهلا يا رجلان. وهلموا يا رجال.

                                                                                                                              وللمرأة هلمي، "وهلمتا"، "وهلممن" في التثنية والجمع.

                                                                                                                              قال ابن السكيت: وغيره الأولى أفصح.

                                                                                                                              فيقال: إنهم قد بدلوا بعدك، فأقول: "سحقا سحقا" هكذا في الأصول "مرتين"، ومعناه: بعدا بعدا. والمكان السحيق البعيد.

                                                                                                                              وأخزى الله الرافضة، كيف حملوا هذا الحديث على أصحابه صلى الله عليه وسلم، المهاجرين منهم والأنصار؟!

                                                                                                                              "وفيه" لفظ "رجال" لا لفظ "صحابة". وإن ثبت هذا اللفظ الأخير في رواية؛ فهو محمول على من ارتد من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا على جميعهم.

                                                                                                                              فحاشاهم عن ذلك، وقد قال تعالى في حقهم ووصفهم:

                                                                                                                              [ ص: 488 ] وما بدلوا تبديلا .

                                                                                                                              قال: ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) إلى غير ذلك من الآيات، ومن الأحاديث الواردة في مناقبهم خصوصا وعموما:


                                                                                                                              وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

                                                                                                                              .

                                                                                                                              وقال سبحانه وتعالى: ليغيظ بهم الكفار .

                                                                                                                              وهذه الآية تدل بمنطوقها دلالة واضحة، على كفر كل من يغيظ بهم، والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية