الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل:

إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك

قال ابن زيد: نزلت في الكفار الذين كانوا لا يورثون النساء والصغار، ويأكلون أموالهم. وقال أكثر الناس: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون ما لم يبح لهم من مال اليتيم. وهي تتناول كل آكل وإن لم يكن وصيا. وسمي آخذ المال على كل وجوهه آكلا، لما كان المقصود هو الأكل، وبه أكثر الإتلاف للأشياء. وفي نصه على البطون من الفصاحة تبيين نقصهم، والتشنيع عليهم بضد مكارم الأخلاق، من التهافت بسبب البطن، وهو أنقص الأسباب وألأمها حتى يدخلوا تحت الوعيد بالنار.

و"ظلما" معناه: ما جاوز المعروف مع فقر الوصي، وقال بعض الناس: المعنى: إنه لما يؤول أكلهم للأموال إلى دخولهم النار قيل: يأكلون النار. وقالت طائفة: بل هي حقيقة أنهم يطعمون النار، وفي ذلك أحاديث، منها حديث أبي سعيد الخدري قال: حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة أسري به قال: "رأيت أقواما لهم مشافر كمشافر [ ص: 479 ] الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم، قلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما.

وقرأ جمهور الناس: "وسيصلون" على إسناد الفعل إليهم، وقرأ ابن عامر بضم الياء، واختلف عن عاصم، وقرأ أبو حيوة، "وسيصلون" على بناء الفعل للمفعول، بضم الياء واللام وفتح الصاد وشد اللام على التكثير، وقرأ ابن أبي عبلة: "وسيصلون" بضم الياء واللام، وهي ضعيفة، والأول أصوب، لأنه كذلك جاء في القرآن في قوله: الذي كذب وتولى وفي قوله: "صال الجحيم"، والصلا هو التسخن بقرب النار أو بمباشرتها، ومنه قول الحارث بن عباد:


لم أكن من جناتها علم اللـ ـه، وإني بحرها اليوم صال



والمحترق الذي يذهبه الحرق ليس بصال إلا في بدء أمره، وأهل جهنم لا تذهبهم فهم فيها صالون; والسعير: الجمر المشتعل.

وهذه آية من آيات الوعيد، والذي يعتقده أهل السنة أن ذلك نافذ على بعض العصاة، لئلا يقع الخبر بخلاف مخبره، ساقط بالمشيئة عن بعضهم، وتلخيص الكلام في المسألة: أن الوعد في الخير، والوعيد في الشر، هذا عرفهما إذا أطلقا، وقد يستعمل الوعد في الشر مقيدا به، كما قال تعالى: النار وعدها الله الذين كفروا فقالت المعتزلة: آيات الوعد كلها في التائبين والطائعين، وآيات الوعيد في المشركين والعصاة بالكبائر، وقال بعضهم: وبالصغائر، وقالت المرجئة: آيات الوعد كلها فيمن اتصف بالإيمان الذي هو التصديق، كان من كان من عاص أو طائع. وقلنا أهل [ ص: 480 ] السنة والجماعة: آيات الوعد في المؤمنين الطائعين ومن حازته المشيئة من العصاة، وآيات الوعيد في المشركين ومن حازه الإنفاذ من العصاة، والآية الحاكمة بما قلناه قوله تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ، فإن قالت المعتزلة: لمن يشاء يعني التائبين، رد عليهم بأن الفائدة في التفضيل كانت تنفسد، إذ الشرك أيضا يغفر للتائب، وهذا قاطع بحكم قوله: "لمن يشاء" بأن ثم مغفورا له وغير مغفور، واستقام المذهب السني.

وقوله تعالى: "يوصيكم" يتضمن الفرض والوجوب، كما تتضمنه لفظة "أمر" كيف تصرفت، وأما صيغة الأمر من غير اللفظة ففيها الخلاف الذي سيأتي موضعه إن شاء الله، ونحو هذه الآية قوله تعالى: ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به .

وقيل: نزلت هذه الآية بسبب بنات سعد بن الربيع، وقال السدي: نزلت بسبب بنات عبد الرحمن بن ثابت أخي حسان بن ثابت، وقيل: بسبب جابر بن عبد الله، إذ عاده رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه، قال جابر بن عبد الله: وذكر أن أهل الجاهلية كانوا لا يورثون إلا من لاقى الحروب وقاتل العدو، فنزلت الآيات تبيينا أن لكل أنثى وصغير حظه. وروي عن ابن عباس أن نزول ذلك كان من أجل أن المال كان للولد، والوصية للوالدين، فنسخ ذلك بهذه الآيات.

و"مثل" مرتفع بالابتداء أو بالصفة، تقديره: حظ مثل حظ. وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: "في أولادكم أن للذكر".

وقوله تعالى: فإن كن نساء .... الآية. الأولاد لفظ يجمع الذكران والإناث، فلما أراد بهذه الآية أن يخص الإناث بذكر حكمهن أنث الفعل للمعنى، ولو اتبع لفظ الأولاد لقال: كانوا، واسم كان مضمر، وقال بعض نحويي البصرة: تقديره: وإن كن المتروكات نساء.

وقوله: "فوق اثنتين" معناه: اثنتين فما فوقهما، تقتضي ذلك قوة الكلام، وأما الوقوف مع اللفظ فيسقط معه النص على الاثنتين، ويثبت الثلثان لهما بالإجماع الذي [ ص: 481 ] مرت عليه الأمصار والأعصار، ولم يحفظ فيه خلاف، إلا ما روي عن عبد الله بن عباس أنه يرى لهما النصف. ويثبت أيضا ذلك لهما بالقياس على الأختين المنصوص عليهما ويثبت ذلك لهما بالحديث الذي ذكره الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى للابنتين بالثلثين، ومن قال: "فوق" زائدة واحتج بقوله تعالى: "فوق الأعناق" يريد: اضربوا منهم الأعناق، فقوله خطأ لأن الظروف وجميع الأسماء يجوز في كلام العرب أن تراد لغير معنى، ولأن قوله: "فوق الأعناق" هو الفصيح، وليست "فوق" زائدة بل هي محكمة المعنى لأن ضربة العنق إنما يجب أن تكون فوق العظام في المفصل دون الدماغ، كما قال دريد بن الصمة: "اخفض عن الدماغ وارفع عن العظم، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال".

وقد احتج لأخذهما الثلثين بغير هذا، وكله معارض، قال إسماعيل القاضي: إذا كانت البنت تأخذ مع أخيها الثلث إذا انفرد، فأحرى أن تأخذ ذلك مع أختها; قال غيره: وكما كان حكم الاثنين فما فوقهما من الإخوة للأم واحدا، فكذلك البنات.

وقال النحاس: لغة أهل الحجاز وبني أسد: الثلث والربع إلى العشر، وقد قرأ الحسن ذلك كله بإسكان الأوسط، وقرأه الأعرج. ومذهب الزجاج أنها لغة واحدة، وأن سكون العين تخفيف.

وإذا أخذ بنات الصلب الثلثين، فلا شيء بعد ذلك لبنات الابن، إلا أن يكون معهن أخ لهن، أو ابن أخ، فيرد عليهن، وعبد الله بن مسعود لا يرى لهن شيئا وإن كان الأخ أو ابن الأخ، ويرى المال كله للذكر وحده دونهن.

التالي السابق


الخدمات العلمية