الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الخلاف في الرجل يسلم وعنده أكثر من أربع نسوة أخبرنا الربيع قال ( قال الشافعي ) قال لي بعض الناس ما حجتك أن يفارق ما زاد على أربع وإن فارق اللاتي نكح أولا ولم تقل يمسك الأربع الأوائل ويفارق سائرهن ؟ فقلت له بحديث الديلمي وحديث نوفل بن معاوية قال أفرأيت لو لم يكن ثابتا أو كانا غير ثابتين أيكون لك في حديث ابن عمر حجة ؟ قلت نعم وما علي فيما يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يقال هل فيه حجة غيره بل علي وعليك التسليم وذلك طاعة الله عز وجل قال هذا كله كما قلت وعلينا أن نقول به إن كان ثابتا قلت إن كنت لا تثبت مثله وأضعف منه فليس عليك حجة فيه فاردد ما كان مثله قال فأحب أن تعلمني هل في حديث ابن عمر حجة لو لم يأت غيره ؟ قلت : نعم قال وأين هي ؟ قلت : لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم غيلان أنه لا يحل له أن يمسك أكثر من أربع ولم يقل له : الأربع الأوائل استدللنا على أنه لو بقي فيما يحل له ويحرم عليه معنى غيره علمه إياه لأنه مبتدئ للإسلام لا علم له قبل إسلامه فيعلم بعضا ويسكت له عما يعلم في غيره قال أوليس قد يعلمه الشيئين فيؤدي أحدهما دون الآخر ؟ قلت : بلى قال فلم جعلت هذا حجة وقد يمكن فيه ما قلت ؟ قلت له في حديث النبي صلى الله عليه وسلم شيئان أحدهما العفو عما فات من ابتداء عقدة النكاح ومن يقع عليه النكاح من العدد فلما لم يسأل عما وقع عليه العقد أولا ولم يسأل عن أصل عقدة نكاحهن .

وكان أهل الأوثان لا يعقدون نكاحا إلا نكاحا لا يصلح أن يبتدأ في الإسلام فعفاه وإذا عفا عقدا واحدا فاسدا لأنه فائت في الشرك فسواء كل عقد فاسد فيه بأن ينكح بغير ولي وبغير شهود وما أشبه ذلك مما لا يجوز ابتداؤه في الإسلام فأكثر ما في النكاح الزوائد على الأربع في الشرك بأن يكون نكاحهن فاسدا كفساد ما وصفنا فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعفو عن ذلك لكل من أسلم من أهل الشرك ويقرهم على نكاحهم وإن كان فاسدا عندنا فكذلك إن أراد أن يحبس ما عقد بعد الأربع في الشرك يجوز ذلك له لأن أكثر حالاتهن أن يكون نكاحهن فاسدا ولا شيء أولى أن يشبه بشيء من عقد فاسد يعفى عنه بعقد يعفى عنه .

ولو لم [ ص: 177 ] يكن في هذا حجة غير هذا لاكتفى بها فكيف ومعه تخيير رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه وترك مسألته عن الأوائل والأواخر كما ترك مسألة من أسلم من أهل الشرك عن نكاحه ليعلم أفاسد أم صحيح وهو معفو يجوز كله والآخر أنه حظر عليه في الإسلام ما لا يجوز أن يجاوز بعده أربعا ومن الجمع بين الأختين فحكم في العقد بفواته في الجاهلية حكم ما قبض من الربا قال الله تعالى { اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين } فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم الله في أن لم يرد ما قبض من الربا لأنه فات ورد ما لم يقبض منه لأن الإسلام أدركه غير فائت فكذلك حكم الله عز وجل في عقد النكاح في الجاهلية إن لم يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه فات إنما هو شيء واحد لا يتبعض فيجاز بعضه ويرد بعضه وحكم فيمن أدركه الإسلام من النساء عقدة حكم الإسلام فلم يجز أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ولا أن يجمع بين الأختين لأن هذا غير فائت أدركهن الإسلام معه كما أدرك ما لم يفت من الربا بقبض .

قال أفتوجدني سوى هذا ما يدل على أن العقدة في النكاح تكون كالعقدة في البيوع ، والفوت مع العقدة ؟ فقلت فيما أوجدتك كفاية قال : فاذكر غيره إن علمته قلت أرأيت امرأة نكحتها بغير مهر فأصبتها أو بمهر فاسد ؟ قال فلها مهر مثلها والنكاح ثابت لا ينفسخ قلت له ولو عقدت البيع بغير ثمن مسمى أو ثمن محرم رد البيع إن وجد فإن هلك في يديك كان عليك قيمته ؟ قال نعم قلت : أفتجد عقد النكاح ههنا أخذ كعقد البيع يربونه ؟ قال نعم قلت فما منعك في عقد النكاح في الجاهلية أن تقول هو كفائت ما اقتسموا عليه وقبضوا القسم وما أربوا فمضى قبضه ولا أرده ، وقلت أرأيت قولك انظر إلى العقدة فإن كانت لو ابتدئت في الإسلام جازت أجزتها وإن كانت لو ابتدئت في الإسلام ردت رددتها أما ذلك فيما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن الديلمي ونوفل بن معاوية ما قطع عنك موضع الشك قال فإنما كلمتك على حديث الزهري لأن جملته قد يحتمل أن يكون عاما على ما وصفت وإن لم يكن عاما في الحديث فقلت له : هذا لو كان كان أشد عليك ولو لم يكن فيه إلا حديث ابن عمر ولم يكن في حديث ابن عمر دلالة كنت محجوجا على لسانك مع أن في حديث ابن عمر دلالة عندنا على قولنا والله أعلم قال : فأوجدني ما يدل على خلاف قولي لو لم يكن في حديث ابن عمر دلالة بينة قلت أرأيت رجلا ابتدأ في الإسلام نكاحا بشهادة أهل الأوثان أيجوز ؟ .

قال لا ولا بشهادة أهل الذمة لأنهم لا يكونون شهداء على المسلمين قلت : أفرأيت غيلان بن سلمة أمن أهل الأوثان كان قبل الإسلام ؟ .

قال : نعم قلت أفرأيت أحسن ما كان عنده أليس أن ينكح بشهادة أهل الأوثان ؟ قال بلى قلت : فإذا زعمت أن يقر مع أربع وأحسن حاله فيهن أن يكون نكاحهن بشهادة أهل الأوثان أما خالفت أصل قولك ؟ قال إن هذا ليلزمني ، قلت : فلو لم يكن عليك حجة غيره كنت محجوجا مع أنا لا ندري لعلهم كانوا ينكحون بغير ولي وبغير شهود وفي العدة : قال إن هذا ليمكن فيهم ويروى عنهم أنهم كانوا ينكحون بغير شهود وفي العدة قال أجل ولكن لم أسمع أن النبي صلى الله عليه وسلم كيف سألهم أصل نكاحهم قلت أفرأيت إن قال لك قائل كما قلت لنا قد يجوز أن يكون سألهم ولم يؤد إليك في الخبر قال إذا يكون ذلك له علي قلت له أفتجد بدا من أن يكون لما لم يؤد في الخبر أنه سألهم عن أصل العقدة كان ذلك عفوا عن العقدة لأنها لا تكون لأهل الأوثان إلا على ما يصلح أن يبتدئها في الإسلام مسلم أو تكون تقول في العقدة قولك في عدد النساء أنه يفرق بينه وبين من تحرم بكل وجه عليه فتقول يبتدئون معا للنكاح في الإسلام قال لا أقوله قلت وما منعك أن تقوله ؟ أليس بأن السنة دلت على أن العقدة معفوة لهم ؟ قال بلى ، قلت : وإذا كانت [ ص: 178 ] معفوة لم ينظر إلى فسادها كما لا ينظر إلى فساد نكاح من لا يجوز نكاحه ولا الجمع بينه ولا ما جاوزت أربعا قال والعقدة مخالفة لهذا قال قلت فكيف جمعت بين المختلف ونظرت إلى فسادها مرة ولم تنظر إليه أخرى ؟ فرجع بعضهم إلى قولنا قال يمسك أربعا أيتهن شاء ويفارق سائرهن وعاب قول أصحابه وقال نحن نفرق بين ما لا يتفرق في العقول بقول الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف إذا جاء قول النبي صلى الله عليه وسلم وهو الذي ألزمناه الله تبارك وتعالى ولكن حد لي فيه حدا .

قلت في نكاح الشرك شيئان عقدة وما يحرم مما تقع عليه العقدة بكل وجه ومجاوزة أربع فلما رد النبي صلى الله عليه وسلم ما جاوز أربعا دل على أنه يرد ذوات المحارم على الناكح وذلك في كتاب الله عز وجل ولما لم يسأل عن العقدة علمت أنه عفا عن العقدة فعفونا عما عفا عنه وانتهينا عن إفساد عقدها إذا كانت المعقود عليها ممن تحل بحال ولولا ذلك رددنا نكاح أهل الأوثان كله وقلنا ابتدئوه في الإسلام حتى يعقد بما يحل في الإسلام .

التالي السابق


الخدمات العلمية