الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 427 ] قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( وإذا جلس الإمام [ على المنبر ] انقطع التنفل ، لما روي عن ثعلبة بن أبي مالك قال : " قعود الإمام يقطع السبحة ، وكلامه يقطع الكلام ، وأنهم كانوا لا يزالون يتحدثون يوم الجمعة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس على المنبر ، فإذا سكت المؤذن قام عمر فلم يتكلم أحد ، حتى يقضي الخطبتين ، فإذا قامت الصلاة ونزل عمر تكلموا " ولأن التنفل في هذا الحال يمنع الاستماع إلى ابتداء الخطبة فكره ، فإن دخل [ رجل ] - والإمام على المنبر - صلى تحية المسجد ; لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا جاء أحدكم والإمام يخطب فليصل ركعتين } فإن دخل والإمام في آخر الخطبة لم يصل ; لأنه تفوته أول الصلاة مع الإمام وهو فرض ، فلا يجوز أن يشتغل عنه بالنفل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث جابر رواه مسلم بلفظه والبخاري بمعناه ، وحديث ثعلبة صحيح رواه الشافعي في الأم بإسنادين صحيحين ، ورواه مالك في الموطأ بمعناه وثعلبة هذا صحابي رأى النبي صلى الله عليه وسلم .

                                      قال البيهقي في كتاب المعرفة : قال الشافعي في القديم : فقد أخبر ثعلبة عن عامة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار الهجرة أنهم كانوا يصلون نصف النهار يوم الجمعة ، ويتكلمون ، والإمام على المنبر .

                                      وقوله " يقطع السبحة " هو بضم السين وهي النافلة ، وفي هذا الأثر فوائد : ( منها ) : جواز الصلاة حال استواء الشمس يوم الجمعة والكلام قبل الخطبة وبعدها قبل الصلاة والتنفل ما لم يقعد الإمام على المنبر ، وانقطاع النافلة بجلوسه على المنبر قبل شروعه في الأذان ، وجواز الكلام حال الأذان .

                                      وقول المصنف ( فلا يجوز أن يشتغل عنه بالتنفل ) معناه يكره الاشتغال عنه بالتنفل ، وليس المراد تحريمه .

                                      ( أما الأحكام ) فقال أصحابنا : إذا جلس الإمام على المنبر امتنع ابتداء النافلة ، ونقلوا الإجماع فيه .

                                      وقال صاحب الحاوي : إذا جلس الإمام على المنبر حرم على من في المسجد أن يبتدئ صلاة النافلة ، وإن كان في صلاة جلس ، [ ص: 428 ] وهذا إجماع .

                                      هذا كلام صاحب الحاوي ، وهو صريح في تحريم الصلاة بمجرد جلوس الإمام على المنبر ، وأنه مجمع عليه .

                                      وقال البغوي : إذا ابتدأ الخطبة لا يجوز لأحد أن يبتدئ صلاة سواء كان صلى السنة أم لا .

                                      وقال الشيخ أبو حامد : إذا جلس الإمام على المنبر انقطع التنفل ، فمن لم يكن في صلاة لم يجز له أن يبتدئها ، فإن كان في صلاة خففها ، وقال المتولي : إذا قلنا : الإنصات سنة جاز أن يشتغل بالقراءة وصلاة النفل ، وإن قلنا : الإنصات واجب حرم ذلك ، هذا كلامه والمشهور المنع من الصلاة مطلقا ، سواء أوجبنا الإنصات أم لا ، فإن خرج الإمام وهو في صلاة استحب له أن يخففها بلا خلاف ولا تبطل واتفق الأصحاب على أن النهي عن الصلاة ابتداء يدخل فيه بجلوس الإمام على المنبر ويبقى حتى يفرغ من صلاة الجمعة .

                                      وأما قول المزني في المختصر : قال الشافعي : إذا زالت الشمس وجلس الإمام على المنبر وأذن المؤذن فقد انقطع الركوع ، يعني التنفل ، فقال الشيخ أبو حامد والأصحاب : هذا غلط من المزني ; لأن التنفل يمتنع بمجرد جلوس الإمام ، ولا يتوقف على الأذان ، قالوا : وقد قال الشافعي في الأم : إذا خرج الإمام وجلس على المنبر انقطع التنفل ، والله أعلم .

                                      وأما إذا دخل داخل ، والإمام جالس على المنبر أو في أثناء الخطبة فيستحب له أن يصلي تحية المسجد ركعتين ويخففهما ويكره تركهما للحديث الصحيح { إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين } وإن دخل والإمام في آخر الخطبة وغلب على ظنه أنه إن صلى التحية فاته تكبيرة الإحرام مع الإمام لم يصل التحية ، بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يقعد لئلا يكون جالسا في المسجد قبل التحية ، وإن أمكنه الصلاة وإدراك تكبيرة الإحرام صلى التحية ، هكذا فصله المحققون ، منهم صاحب الشامل ، وأطلق البغوي وجماعة كما أطلق المصنف ، وإطلاقهم محمول على التفصيل المذكور .

                                      قال صاحب العدة : يستحب للإمام أن يزيد في الخطبة قدرا يمكنه أن يأتي بالركعتين فيه ، وهذا موافق لنص الإمام الشافعي ، فإنه قال في الأم : إذا دخل ، والإمام في آخر الكلام - ولا يمكنه صلاة ركعتين خفيفتين قبل دخول الإمام في الصلاة - فلا عليه أن يصليهما ، وأرى الإمام أن يأمره بصلاتهما ، ويزيد [ ص: 429 ] في كلامه ما يمكنه إكمالهما فيه ، فإن لم يفعل كرهت ذلك له ، ولا شيء عليه ، هذا نصه وأطبق الأصحاب عليه .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب مذهبنا أنه يستحب له أن يصلي ركعتين تحية المسجد ويخففهما ويكره له تركهما ، وبه قال الحسن البصري ومكحول والمقبري وسفيان بن عيينة وأبو ثور والحميدي وأحمد وإسحاق وابن المنذر وداود وآخرون .

                                      وقال عطاء بن أبي رباح وشريح وابن سيرين والنخعي وقتادة ومالك والليث والثوري وأبو حنيفة وسعيد بن عبد العزيز : لا يصلي شيئا ، وقال أبو مجلز : إن شاء صلى وإلا فلا ، واحتجوا بحديث عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { إذا خطب الإمام فلا صلاة ولا كلام } واحتج أصحابنا بحديث جابر المذكور وهو صحيح كما سبق .

                                      والجواب عن حديث ابن عمر من وجهين ( أحدهما ) : أنه غريب ( والثاني ) : لو صح لحمل على ما زاد على ركعتين جمعا بين الأحاديث .




                                      الخدمات العلمية