الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في امتناع الحاكم من الحكم بعلمه

                                                                                                                                            3916 - ( عن عائشة { أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا ، فلاحاه رجل في صدقته ، فضربه أبو جهم فشجه فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : القود يا رسول الله ، فقال : لكم كذا وكذا فلم يرضوا ، فقال لكم كذا وكذا ، فرضوا ، فقال : إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم ؟ قالوا : نعم ، فخطب فقال : إن هؤلاء الذين أتوني يريدون القود فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا أفرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم المهاجرون بهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفوا عنهم فكفوا ، ثم دعاهم فزادهم ، فقال : أفرضيتم ؟ قالوا : نعم ، قال : إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم ؟ قالوا : نعم ، فخطب فقال : أرضيتم ؟ فقالوا : نعم } . رواه الخمسة إلا الترمذي )

                                                                                                                                            3917 - ( وعن جابر قال : { أتى رجل بالجعرانة منصرفه من حنين وفي ثوب بلال فضة ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقبض منها يعطي الناس ، فقال : يا محمد اعدل ، فقال : ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل ، فقال عمر : دعني يا رسول الله أقتل هذا المنافق ، فقال : معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي ، إن هذا وأصحابه يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية } رواه أحمد ومسلم . قال أبو بكر الصديق : لو رأيت رجلا على حد من [ ص: 330 ] حدود الله ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري . حكاه أحمد ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عائشة سكت عنه أبو داود والمنذري قال المنذري : ورواه يونس بن يزيد عن الزهري منقطعا ، قال البيهقي : ومعمر بن راشد حافظ قد أقام إسناده فقامت به الحجة ، وأثر أبي بكر قال الحافظ في الفتح : رواه ابن شهاب عن زيد بن الصامت أن أبا بكر فذكره وصحح إسناده . وقد اختلف أهل العلم في جواز القضاء من الحاكم بعلمه ، فروى البخاري عن عبد الرحمن بن عوف مثل ما ذكره المصنف عن أبي بكر . واستدل البخاري أيضا على أنه لا يحكم الحاكم بعلمه بما قاله عمر : لولا أن يقول الناس : زاد عمر آية في كتاب الله ، لكتبت آية الرجم

                                                                                                                                            قال المهلب : وأفصح بالعلة في ذلك بقوله : لولا أن يقول الناس . . . إلخ ، فأشار إلى أن ذلك من قطع الذرائع لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم لمن أحبوا له الحكم بشيء . قال البخاري : وقال أهل الحجاز : الحاكم لا يقضي بعلمه سواء علم بذلك في ولايته أو قبلها . قال الكرابيسي : لا يقضي القاضي بما علم لوجود التهمة ، إذ لا يؤمن على التقي أن تتطرق إليه التهمة . قال : ويلزم من أجاز للقاضي أن يقضي بعلمه مطلقا أنه لو عمد إلى رجل مستور لم يعهد منه فجور قط أن يرجمه ويدعي أنه رآه يزني ، أو يفرق بينه وبين زوجته ويزعم أنه سمعه يطلقها ، أو بينه وبين أمته ويزعم أنه سمعه يعتقها ، فإن هذا الباب لو فتح لوجد كل قاض السبيل إلى قتل عدوه وتفسيقه والتفريق بينه وبين من يحب ، ومن ثم قال الشافعي : لولا قضاة السوء لقلت : إن للحاكم أن يحكم بعلمه

                                                                                                                                            قال ابن التين : ما ذكره البخاري عن عمر وعبد الرحمن هو قول مالك وأكثر أصحابه . وقال بعض أصحابه : يحكم بما علمه فيما أقر به أحد الخصمين عنده في مجلس الحكم . وقال ابن القاسم وأشهب : لا يقضي بما يقع عنده في مجلس الحكم إلا إذا شهد به عنده . وقال ابن المنير : مذهب مالك أن من حكم بعلمه نقض على المشهور إلا إن كان علمه حادثا بعد الشروع في المحاكمة فقولان

                                                                                                                                            وأما ما أقر به عنده في مجلس الحكم فيحكم ما لم ينكر الخصم بعد إقراره . وقبل الحكم عليه فإن ابن القاسم قال : لا يحكم عليه حينئذ ويكون شاهدا . وقال ابن الماجشون : يحكم بعلمه . قال البخاري : وقال بعض أهل العراق : ما سمع أو رآه في مجلس القضاء قضى به وما كان في غيره لم يقض إلا بشاهدين يحضرهما إقراره . قال في الفتح : وهذا قول أبي حنيفة ومن تبعه ، ووافقهم مطرف وابن الماجشون وأصبغ وسحنون من المالكية . قال ابن التين : وجرى به العمل . وروى عبد الرزاق نحوه عن شريح . قال البخاري : [ ص: 331 ] وقال آخرون منهم يعني أهل العراق : بل يقضي لأنه مؤتمن

                                                                                                                                            قال في الفتح : وهو قول أبي يوسف ومن تبعه ، ووافقهم الشافعي فيما بلغني عنه أنه قال : إن كان القاضي عدلا لا يحكم بعلمه في حد ولا قصاص إلا ما أقر به بين يديه ويحكم بعلمه في كل الحقوق مما علمه قبل أن يلي القضاء أو بعد ما ولي ، فقيد ذلك بكون القاضي عدلا إشارة إلى أنه ربما ولي القضاء من ليس بعدل . قال البخاري : وقال بعضهم يعني أهل العراق : يقضي بعلمه في الأموال ولا يقضي في غيرها . قال في الفتح : هو قول أبي حنيفة وأبي يوسف فيما نقله الكرابيسي عنه ، وفي رواية لأحمد . قال أبو حنيفة : القياس أنه يحكم في ذلك بعلمه ، ولكن أدع القياس وأستحسن أن لا يقضي في ذلك بعلمه

                                                                                                                                            وحكي مثل ذلك في الفتح عن بعض المالكية فقالوا : إنه يقضي بعلمه في كل شيء إلا في الحدود . قال : وهذا هو الراجح عند الشافعية . وقال ابن العربي : لا يقضي بعلمه ، والأصل فيه عندنا الإجماع على أنه لا يحكم بعلمه في الحدود . قال : ثم أحدث بعض الشافعية قولا أنه يجوز فيها أيضا حين رأوا أنها لازمة لهم . قال الحافظ : كذا قال فجرى على عادته في التهويل والإقدام على نقل الإجماع مع شهرة الاختلاف . وقد حكي في البحر القول بأن الحاكم يحكم بعلمه عن العترة والشافعي وأبي حنيفة وأحمد . وحكي المنع عن شريح والشعبي والأوزاعي ومالك وإسحاق ، وأحد قولي الشافعي ، والأقوال في المسألة فيها طول قد ذكر البخاري وشراح كتابه بعضا منها في باب الشهادة تكون عند الحاكم ، وبعضا في باب من رأى للقاضي أن يحكم بعلمه

                                                                                                                                            وذكر البخاري في البابين أحاديث يستدل بها على الجواز وعدمه وهي في غاية البعد عن الدلالة على المقصود ، وكذلك ما ذكره المصنف في هذا الباب ، فإن حديث عائشة ليس فيه إلا مجرد وقوع الإخبار منه صلى الله عليه وسلم بما وقع به الرضا من الطالبين للقود وإن كان الاحتجاج بعدم القضاء منه صلى الله عليه وسلم عليهم بما رضوا به المرة الأولى فلم يكن هناك مطالب له بالحكم عليهم . وكذلك حديث جابر المذكور لا يدل على المطلوب بوجه . وغاية ما فيه الامتناع عن القتل لمن كان في الظاهر من الصحابة لئلا يقول الناس تلك المقالة ، والإخبار للحاضرين بما يكون من أمر الخوارج وترك أخذهم بذلك لتلك العلة ومن جملة ما استدل به البخاري على الجواز حديث هند زوجة أبي سفيان لما أذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها

                                                                                                                                            قال ابن بطال : احتج من أجاز للقاضي أن يحكم بعلمه بهذا الحديث لأنه إنما قضى لها ولولدها بوجوب النفقة لعلمه بأنها زوجة أبي سفيان ولم يلتمس على ذلك بينة . وتعقبه ابن المنير بأنه لا دليل فيه لأنه خرج مخرج الفتيا ، وكلام المفتي يتنزل على تقدير صحة كلام المستفتي ا هـ . فإن قيل : إن محل الدليل إنما هو عمله بعلمه أنها زوجة أبي سفيان فكيف صح هذا [ ص: 332 ] التعقب . فيجاب بأن الذي يحتاج إلى معرفة المحكوم له هو الحكم لا الإفتاء ، فإنه يصح للمجهول ، فإذا ثبت أن ذلك من قبيل الإفتاء بطلت دعوى أنه حكم بعلمه أنها زوجة . وقد تعقب الحافظ كلام ابن المنير فقال : وما ادعى نفيه بعيد ، فإنه لو لم يعلم صدقها لم يأمرها بالأخذ ، واطلاعه على صدقها ممكن بالوحي دون من سواه ، فلا بد من سبق علم

                                                                                                                                            ويجاب عن هذا بأن الأمر لا يستلزم الحكم لأن المفتي يأمر المستفتي بما هو الحق لديه وليس ذلك من الحكم في شيء ومن جملة ما استدل به على المنع الحديث المتقدم عن أم سلمة " فأقضي بنحو ما أسمع " ولم يقل بما أعلم . ويجاب بأن التنصيص على السماع لا ينفي كون غيره طريقا للحكم . على أنه يمكن أن يقال إن الاحتجاج بهذا الحديث للمجوزين أظهر ، فإن العلم أقوى من السماع لأنه يمكن بطلان ما سمعه الإنسان ولا يمكن بطلان ما يعلمه ، ففحوى الخطاب تقتضي جواز القضاء بالعلم

                                                                                                                                            ومن جملة ما استدل به المانعون حديث " شاهداك أو يمينه " وفي لفظ " وليس لك إلا ذلك " ويجاب بما تقدم من أن التنصيص على ما ذكر لا ينفي ما عداه وأما قوله : وليس لك إلا ذلك " فلم يقله النبي صلى الله عليه وسلم وقد علم بالمحق منهما من المبطل حتى يكون دليلا على عدم حكم الحاكم بعلمه ، بل المراد أنه ليس للمدعي من المنكر إلا اليمين وإن كان فاجرا حيث لم يكن للمدعي برهان . والحق الذي لا ينبغي العدول عنه أن يقال : إن كانت الأمور التي جعلها الشارع أسبابا للحكم كالبينة واليمين ونحوهما أمورا تعبدنا الله بها لا يسوغ لنا الحكم إلا بها ، وإن حصل لنا ما هو أقوى منها بيقين فالواجب علينا الوقوف عندها والتقيد بها وعدم العمل بغيرها في القضاء كائنا ما كان ، وإن كانت أسبابا يتوصل الحاكم بها إلى معرفة المحق من المبطل والمصيب من المخطئ غير مقصودة لذاتها بل لأمر آخر وهو حصول ما يحصل للحاكم بها من علم أو ظن وأنها أقل ما يحصل له ذلك في الواقع فكان الذكر لها لكونها طرائق لتحصيل ما هو المعتبر فلا شك ولا ريب أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه ; لأن شهادة الشاهدين والشهود لا تبلغ إلى مرتبة العلم الحاصل عن المشاهدة أو ما يجري مجراها ، فإن الحاكم بعلمه غير الحاكم الذي يستند إلى شاهدين أو يمين ، ولهذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم : { فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة من نار } فإذا جاز الحكم مع تجويز كون الحكم صوابا وتجويز كونه خطأ فكيف لا يجوز مع القطع بأنه صواب لاستناده إلى العلم اليقيني

                                                                                                                                            ولا يخفى رجحان هذا وقوته ، لأن الحاكم به قد حكم بالعدل والقسط والحق كما أمر الله تعالى . ويؤيد هذا ما سيأتي في باب استحلاف المنكر حيث قال صلى الله عليه وسلم للكندي : " ألك بينة ؟ " فإن البينة في الأصل ما به يتبين الأمر ويتضح . ولا يرد على هذا أنه يستلزم قبول شهادة الواحد والحكم بها . لأنا نقول : إذا كان القضاء [ ص: 333 ] بأحد الأسباب المشروعة فيجب التوقف فيه على ما ورد ، وقد قال تعالى : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } وقال صلى الله عليه وسلم : " شاهداك " وإنما النزاع إذا جاء بسبب آخر من غير جنسها هو أولى بالقبول منها كعلم الحاكم

                                                                                                                                            واستدل المستثني للحدود بما تقدم من قوله صلى الله عليه وسلم " لولا الأيمان لكان لي ولها شأن " وفي لفظ " لو كنت راجما أحدا من غير بينة لرجمتها " أخرجه مسلم وغيره من حديث ابن عباس في قصة الملاعنة ، وظاهره أنه صلى الله عليه وسلم قد علم بوقوع الزنا منها ولم يحكم بعلمه ، ومن ذلك قول أبي بكر وعبد الرحمن المتقدمان . ويمكن أن يجاب عن الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما لم يعمل بعلمه لكونه قد حصل التلاعن وهو أحد الأسباب الشرعية الموجبة للحكم بعدم الرجم ، والنزاع إنما هو في الحكم بالعلم من دون أن يتقدم سبب شرعي ينافيه ، وقد تقدم في اللعان ما يزيد هذا وضوحا ومن الأدلة الدالة على جواز الحكم بالعلم ما أخرجه أحمد والنسائي والحاكم من حديث عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن الأعرج عن أبي هريرة قال : { جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال للمدعي : أقم البينة ، فلم يقمها ، فقال للآخر : احلف ، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عنده شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قد فعلت ، ولكن غفر لك بإخلاص لا إله إلا الله وفي رواية للحاكم بل هو عندك ادفع إليه حقه ، ثم قال : شهادتك أن لا إله إلا الله كفارة يمينك وفي رواية لأحمد فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إنه كاذب إن له عنده حقه ، فأمره أن يعطيه وكفارة يمينه معرفة لا إله إلا الله } وأعله ابن حزم بأبي يحيى وهو مصدع المعرقب ، كذا قال ابن عساكر وتعقبه المزي بأنه وهم بل اسمه زياد كذا اسمه عند أحمد والبخاري وأبي داود في هذا الحديث ، وأعله أبو حاتم برواية شعبة عن عطاء بن السائب عن البحتري بن عبيد عن أبي الزبير مختصرا " أن رجلا حلف بالله وغفر له " قال : وشعبة أقدم سماعا من غيره .

                                                                                                                                            وفي الباب عن أنس من طريق الحارث بن عبيد عن ثابت وعن ابن عمر . قال الحافظ : أخرجهما البيهقي والحارث بن عبيد هو أبو قدامة . فهذا الحديث فيه أنه صلى الله عليه وسلم قضى بعلمه بعد وقوع السبب الشرعي وهو اليمين ، فبالأولى جواز القضاء بالعلم قبل وقوعه

                                                                                                                                            وقد حكى في البحر عن الإمام يحيى وأحد قولي المؤيد بالله وأحد قولي الشافعي أنه يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه في الحدود وغيرها ، واستدل لهم بأنه لم يفصل الدليل . وحكى عن أبي حنيفة ومحمد أنه إن علم الحد قبل ولايته أو في غير بلد ولايته لم يحكم به إذ ذلك شبهة ، وإن علم به في بلد ولايته أو بعد ولايته حكم بعلمه .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية