الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 334 ] باب من لا يجوز الحكم بشهادته

                                                                                                                                            3918 - ( عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر على أخيه ، ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت ، والقانع الذي ينفق عليه أهل البيت } رواه أحمد وأبو داود وقال : " شهادة الخائن والخائنة " إلى آخره ، ولم يذكر تفسير القانع . ولأبي داود في رواية { لا يجوز شهادة خائن ولا خائنة ، ولا زان ولا زانية ، ولا ذي غمر على أخيه } )

                                                                                                                                            3919 - ( وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية } رواه أبو داود وابن ماجه ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث عمرو بن شعيب أخرجه البيهقي وابن دقيق العيد قال في التلخيص : وسنده قوي ا هـ . وقد ساقه أبو داود بإسنادين : الإسناد الأول قال : حدثنا حفص بن عمر ، حدثنا محمد بن راشد يعني المكحولي الدمشقي نزيل البصرة وثقه أحمد بن معين ، حدثنا سليمان بن موسى ، يعني القرشي الأموي فقيه أهل الشام وكان أوثق أصحاب مكحول وأعلاهم ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وهذا إسناد لا مطعن فيه . ورواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده لا يخرج بها الحديث عن الحسن والصلاحية للاحتجاج ، والسند الثاني قال : حدثنا محمد بن خلف بن طارق الرازي ، حدثنا زيد بن يحيى بن عبيد ، يعني الدمشقي الخزاعي وهو ثقة ، حدثنا سعيد بن عبد العزيز ، يعني ابن يحيى التنوخي الدمشقي روى له البخاري في الأدب وسائر الجماعة عن سليمان بن موسى المتقدم عن عمرو بن شعيب بالإسناد المتقدم ، وهذا كالإسناد الأول .

                                                                                                                                            وفي الباب من حديث عائشة مرفوعا بلفظ { لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ولا ذي غمر لأخيه ، ولا ظنين ولا قرابة } أخرجه الترمذي والدارقطني والبيهقي ، وفيه يزيد بن زياد الشامي وهو ضعيف . قال الترمذي : لا يعرف هذا من حديث الزهري إلا من هذا الوجه ، ولا يصح عندنا إسناده وقال أبو زرعة في العلل : منكر ، وضعفه عبد الحق وابن حزم وابن الجوزي .

                                                                                                                                            وفي الباب أيضا من حديث عبد الله بن عمر بن الخطاب نحوه ، أخرجه الدارقطني والبيهقي وفي إسناده عبد الأعلى وهو ضعيف ، وشيخه يحيى بن سعيد الفارسي وهو أيضا ضعيف . قال البيهقي : لا يصح من هذا شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي الباب [ ص: 335 ] أيضا عن عمر " لا تقبل شهادة ظنين ولا خصم " أخرجه مالك في الموطأ موقوفا وهو منقطع . قال الإمام في النهاية : واعتمد الشافعي خبرا صحيحا وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال : { لا تقبل شهادة خصم على خصم } قال الحافظ : ليس له إسناد صحيح لكن له طرق يتقوى بعضها ببعض ، فروى أبو داود في المراسيل من حديث طلحة بن عبد الله بن عوف { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مناديا أنها لا تجوز شهادة خصم ولا ظنين } . ورواه أيضا البيهقي من طريق الأعرج مرسلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا تجوز شهادة ذي الظنة والحنة } يعني الذي بينك وبينه عداوة . ورواه الحاكم من حديث العلاء عن أبيه عن أبي هريرة يرفعه مثله ، وفي إسناده نظر .

                                                                                                                                            وحديث الباب عن أبي هريرة أخرجه البيهقي وقال : هذا الحديث مما تفرد به محمد بن عمرو بن عطاء عن عطاء بن يسار وقال المنذري : رجال إسناده احتج بهم مسلم في صحيحه ا هـ . وسياقه في سنن أبي داود قال : حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني يحيى بن أيوب ونافع بن يزيد ، يعني الكلاعي عن أبي الهاد ، يعني يزيد بن عبد الله بن الهاد الليثي عن محمد بن عمرو بن عطاء ، يعني القرشي العامري عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة . قوله : ( لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة ) صرح أبو عبيد بأن الخيانة تكون في حقوق الله كما تكون في حقوق الناس من دون اختصاص

                                                                                                                                            قوله : ( ولا ذي غمر ) قال ابن رسلان : بكسر الغين المعجمة وسكون الميم بعدها راء مهملة . قال أبو داود : الغمر : الحنة والشحناء ، والحنة بكسر الحاء المهملة وتخفيف النون المفتوحة لغة في إحنة : وهي الحقد ، قال الجوهري : يقال في صدره علي إحنة ولا يقال حنة ، والمواحنة : المعاداة . والصحيح أنها لغة كما ذكره أبو داود وجمعها حنات . قال ابن الأثير : وهي لغة قليلة في الإحنة ، وقال الهروي : هي لغة رديئة ، والشحناء بالمد : العداوة ، وهذا يدل على أن العداوة تمنع من قبول الشهادة لأنها تورث التهمة وتخالف الصداقة ، فإن في شهادة الصديق لصديقه بالزور نفع غيره بمضرة نفسه ، وبيع آخرته بدنيا غيره ، وشهادة العدو على عدوه يقصد بها نفع نفسه بالتشفي من عدوه فافترقا . فإن قيل : لم قبلتم شهادة المسلمين على الكفار مع العداوة ؟ قال ابن رسلان : قلنا العداوة ههنا دينية ، والدين لا يقتضي شهادة الزور ، بخلاف العداوة الدنيوية ، قال : وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور ، وقال أبو حنيفة : لا تمنع العداوة الشهادة لأنها لا تخل بالعدالة فلا تمنع الشهادة كالصداقة ا هـ

                                                                                                                                            وإلى الأول ذهبت الهادوية ، وإلى الثاني ذهب المؤيد بالله أيضا . والحق عدم قبول شهادة العدو على عدوه لقيام الدليل على ذلك ، والأدلة لا تعارض بمحض الآراء ، وليس للقائل بالقبول دليل مقبول . قال في البحر : مسألة : العداوة لأجل الدين لا تمنع كالعدلي على القدري والعكس ، ولأجل الدنيا [ ص: 336 ] تمنع . قوله : ( ولا تجوز شهادة القانع لأهل البيت ) هو الخادم المنقطع إلى الخدمة فلا تقبل شهادته للتهمة بجلب النفع إلى نفسه ، وذلك كالأجير الخاص . وقد ذهب إلى عدم قبول شهادته للمؤجر له الهادي والقاسم والناصر والشافعي ، قالوا : لأن منافعه قد صارت مستغرقة فأشبه العبد

                                                                                                                                            وقد حكي في البحر الإجماع على عدم قبول شهادة العبد لسيده قوله : ( ولا زان ولا زانية ) المانع من قبول شهادتهما الفسق الصريح . وقد حكي في البحر الإجماع على أنها لا تصح الشهادة من فاسق لصريح قوله تعالى: { وأشهدوا ذوي عدل } وقوله : { إن جاءكم فاسق } ا هـ . واختلف في شهادة الولد لوالده والعكس فمنع من ذلك الحسن البصري والشعبي وزيد بن علي والمؤيد بالله والإمام يحيى والثوري ومالك والشافعية والحنفية وعللوا بالتهمة فكان كالقانع . وقال عمر بن الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز والعترة وأبو ثور وابن المنذر والشافعي في قول له : إنها تقبل لعموم قوله تعالى: { ذوي عدل } وهكذا وقع الخلاف في شهادة أحد الزوجين للآخر لتلك العلة ، ولا ريب أن القرابة والزوجية مظنة للتهمة ; لأن الغالب فيهما المحاباة

                                                                                                                                            وحديث " ولا ظنين " المتقدم يمنع من قبول شهادة المتهم ، فمن كان معروفا من القرابة ونحوهم بمتانة الدين البالغة إلى حد لا يؤثر معها محبة القرابة فقد زالت حينئذ مظنة التهمة ولم يكن كذلك ، فالواجب عدم القبول لشهادته لأنه مظنة للتهمة قوله : ( لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ) البدوي : هو الذي يسكن البادية في المضارب والخيام ولا يقيم في موضع خاص ، بل يرتحل من مكان إلى مكان ، وصاحب القرية هو الذي يسكن القرى ، وهي المصر الجامع . قال في النهاية : إنما كره شهادة البدوي لما فيه من الجفاء في الدين والجهالة بأحكام الشرع ، ولأنهم في الغالب لا يضبطون الشهادة على وجهها

                                                                                                                                            قال الخطابي : يشبه أن يكون إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من عدم العلم بإتيان الشهادة على وجهها ولا يقيمونها على حقها لقصور علمهم عما يغيرها عن وجهها ، وكذلك قال أحمد . وذهب إلى العمل بالحديث جماعة من أصحاب أحمد ، وبه قال مالك وأبو عبيد ، وذهب الأكثر إلى القبول . قال ابن رسلان : وحملوا هذا الحديث على من لم تعرف عدالته من أهل البدو ، والغالب أنهم لا تعرف عدالتهم ا هـ . وهذا حمل مناسب لأن البدوي إذا كان معروف العدالة كان رد شهادته لعلة كونه بدويا غير مناسب لقواعد الشريعة ; لأن المساكن لا تأثير لها في الرد والقبول لعدم صحة جعل ذلك مناطا شرعيا ولعدم انضباطه ، فالمناط هو العدالة الشرعية إن وجد للشرع اصطلاح في العدالة وإلا توجه الحمل على العدالة اللغوية ، فعند وجود العدالة يوجد القبول وعند عدمها يعدم ، ولم يذكر صلى الله عليه وسلم المنع من شهادة البدوي إلا لكونه مظنة لعدم القيام بما تحتاج إليه العدالة وإلا فقد قبل [ ص: 337 ] صلى الله عليه وسلم في الهلال شهادة بدوي . .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية