الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      أفلم يسيروا في الأرض حث لهم على السفر للنظر والاعتبار بمصارع الهالكين هذا إن كانوا لم يسافروا وإن كانوا سافروا فهو حث على النظر والاعتبار ، وذكر المسير لتوقفه عليه ، وجوز أن يكون الاستفهام للإنكار أو التقرير ، وأيا ما كان فالعطف على مقدر يقتضيه المقام ، وقوله تعالى : فتكون لهم منصوب في جواب الاستفهام عند ابن عطية . وفي جواب التقرير عند الحوفي وفي جواب النفي عند بعض ، ومذهب البصريين أن النصب بإضمار أن وينسبك منها ومن الفعل مصدر يعطف على مصدر متوهم . ومذهب الكوفيين أنه منصوب على الصرف إذ معنى الكلام الخبر صرفوه عن الجزم على العطف على ( يسيروا ) وردوه إلى أخي الجزم وهو النصب وهو كما ترى . ومذهب الجرمي أن النصب بالفاء نفسها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مبشر بن عبيد «فيكون » بالياء التحتية قلوب يعقلون بها أي يعلمون بها ما يجب أن يعلم من التوحيد فمفعول ( يعقلون ) محذوف لدلالة المقام عليه ، وكذا يقال في قوله تعالى : أو آذان يسمعون بها أي يسمعون بها ما يجب أن يسمع من الوحي أو من أخبار الأمم المهلكة ممن يجاورهم من الناس فإنهم أعرف منهم بحالهم فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ضمير ( فإنها ) للقصة فهو مفسر بالجملة بعده ، ويجوز في مثله التذكير باعتبار الشأن ، وعلى ذلك قراءة عبد الله «فإنه » وحسن التأنيث هنا وقوع ما فيه تأنيث بعده ، وقيل : يجوز أن يكون ضميرا مبهما مفسرا بالأبصار ، وكأن الأصل فإنها الأبصار لا تعمى على أن جملة لا تعمى من الفعل والفاعل المستتر خبر بعد خبر فلما ترك الخبر الأول أقيم الظاهر مقام الضمير لعدم ما يرجع إليه ظاهرا فصار فاعلا مفسرا للضمير . واعترضه أبو حيان بأنه لا يجوز لأن الضمير المفسر بمفرد بعده محصور في أمور وهي باب رب وباب نعم وبئس وباب الأعمال وباب البدل وباب المبتدأ والخبر وما هنا ليس منها . ورد بأنه من باب المبتدأ والخبر نحو ( إن هي إلا حياتنا الدنيا ) [الأنعام : 29 ، المؤمنون : 37 ، الجاثية : 24] ولا يضره دخول الناسخ ، وفيه نظر ، والمعنى أنه لا يعتد بعمى الأبصار وإنما يعتد بعمى القلوب فكأن عمى الأبصار ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب ، فالكلام تذييل لتهويل ما بهم من عدم فقه القلب وأنه العمى الذي لا عمى بعده بل لا عمى إلا هو أو المعنى أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم فكأنه قيل : أفلم يسيروا فتكون لهم قلوب ذات بصائر فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بإبصار عيونهم وهي الآفة التي كل آفة دونها كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها ، ووصف القلوب بالتي في الصدور على ما قال الزجاج للتأكيد كما في [ ص: 168 ] قوله تعالى : يقولون بأفواههم [آل عمران : 167] وقولك : نظرت بعيني .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري قد تعورف واعتقد أن العمى على الحقيقة مكانه البصر وهو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها واستعماله في القلب استعارة ومثل فلما أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة ونفيه عن الأبصار احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين وفضل تعريف ليتقرر أن مكان العمى هو القلوب لا الأبصار كما تقول : ليس المضاء للسيف ولكنه للسانك الذي بين فكيك وهو في حكم قولك : ما نفيت المضاء عن السيف وأثبته للسانك فلتة ولا سهوا مني ولكن تعمدت به إياه بعينه تعمدا .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية على ما قيل نزلت في ابن أم مكتوم حين سمع قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى [الإسراء : 72] فقال : يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى؟ وربما يرجح بهذه الرواية إن صحت المعنى الأول إذ حصول الجواب بالآية عليه ظاهر جدا فكأنه قيل له : أنت لا تدخل تحت عموم ( ومن كان ) إلخ لأن عمى الأبصار في الدنيا ليس بعمى في الحقيقة في جنب عمى القلوب والذي يدخل تحت عموم ذلك من اتصف بعمى القلب ، وهذا يكفي في الجواب سواء كان معنى قوله تعالى : ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة كذلك أو ومن كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى البصر لأنه فيها تبلى السرائر فيظهر عمى القلب بصورة عمى البصر ، نعم في صحة الرواية نظر .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي الدر المنثور أخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال في هذه الآية : ذكر لنا أنها نزلت في عبد الله بن زائدة يعني ابن أم مكتوم ، ولا يخفى حكم الخبر إذا روي هكذا . واستدل بقوله تعالى : أفلم يسيروا إلخ على استحباب السياحة في الأرض وتطلب الآثار .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب التفكر عن مالك بن دينار قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اتخذ نعلين من حديد وعصا ثم سح في الأرض فاطلب الآثار والعبر حتى تحفى النعلان وتنكسر العصا ، وبقوله تعالى : فتكون إلخ على أن محل العقل القلب لا الرأس ، قاله الجلال السيوطي في أحكام القرآن العظيم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الإمام الرازي : في الآية دلالة على أن العقل هو العلم وعلى أن محله هو القلب ، وأنت تعلم أن كون العقل هو العلم هو اختيار أبي إسحاق الإسفرائيني واستدل عليه بأنه يقال لمن عقل شيئا علمه ولمن علم شيئا عقله ، وعلى تقدير التغاير لا يقال ذلك وهو غير سديد لأنه إن أريد بالعلم كل علم يلزم منه أن لا يكون عاقلا من فاته بعض العلوم مع كونه محصلا لما عداه وإن أريد بعض العلوم فالتعريف غير حاصل لعدم التمييز وما ذكر من الاستدلال غير صحيح لجواز أن يكون العلم مغايرا للعقل وهما متلازمان . وقال الأشعري : لا فرق بين العقل والعلم إلا في العموم والخصوص والعلم أعم من العقل فالعقل إذا علم مخصوص فقيل : هو العلم الصارف عن القبيح الداعي إلى الحسن وهو قول الجبائي ، وقيل : هو العلم بخير الخيرين وشر الشرين وهو قول لبعض المعتزلة أيضا ولهم أقوال أخر ، والذي اختاره القاضي أبو بكر أنه بعض العلوم الضرورية كالعلم باستحالة اجتماع الضدين وأنه لا واسطة بين النفي والإثبات وأن الموجود لا يخرج عن أن يكون قديما أو حادثا ونحو ذلك . واحتج إمام الحرمين على صحة ذلك وإبطال ما عداه بما ذكره الآمدي في إبكار الأفكار بما له وعليه . واختار المحاسبي عليه الرحمة أنه غريزة يتوصل بها إلى المعرفة ، ورد بأنه إن أراد بالغريزة العلم [ ص: 169 ] لزمه ما لزم القائل بأنه العلم وإن أراد بها غير العلم فقد لا يسلم وجود أمر وراء العلم يتوصل به إلى المعرفة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال صاحب القاموس بعد نقل عدة أقوال في العقل : والحق أنه نور روحاني به تدرك النفس العلوم الضرورية والنظرية ، ولعلنا نحقق ذلك في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، ثم إن في محلية القلب للعلم خلافا بين العقلاء فالمشهور عن الفلاسفة أن محل العلم المتعلق بالكليات والجزئيات المجردة النفس الناطقة ومحل العلم المتعلق بالجزئيات المادية قوى جسمانية قائمة بأجزاء خاصة من البدن وهي منقسمة إلى خمس ظاهرة وخمس باطنة وتسمى الأولى الحواس الظاهرة والثانية الحواس الباطنة وأمر كل مشهور .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعض متفلسفة المتأخرين أن المدرك للكليات والجزئيات إنما هو النفس والقوى مطلقا غير مدركة بل آلة في إدراك النفس وذهب إليه بعض منا . وفي أبكار الأفكار بعد نقل قول الفلاسفة وأما أصحابنا فالبنية المخصوصة غير مشترطة عندهم بل كل جزء من أجزاء بدن الإنسان إذا قام به إدراك وعلم فهو مدرك عالم ، وكون ذلك مما يقوم بالقلب أو غيره مما لا يجب عقلا ولا يمتنع لكن دل الشرع على القيام بالقلب لقوله تعالى : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب [ق : 37] وقوله سبحانه : فتكون لهم قلوب يعقلون بها وقوله عز وجل أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [محمد : 24] انتهى ، ولا يخفى أن الاستدلال بما ذكر على محلية القلب للعلم لا يخلو عن شيء ، نعم لا ينكر دلالة الآيات على أن للقلب الإنساني لما أودع فيه مدخلا تاما في الإدراك ، والوجدان يشهد بمدخلية ما أودع في الدماغ في ذلك أيضا ، ومن هنا لا أرى للقول بأن لأحدهما مدخلا دون الآخر وجها ، وكون الإنسان قد يضرب على رأسه فيذهب عقله لا يدل على أن لما أودع في الدماغ لا غير مدخلا في العلم كما لا يخفى على من له قلب سليم وذهن مستقيم فتأمل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية