الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال عثمان بن سعيد في كتاب " الرد على الجهمية " له: "باب الإيمان بكلام الله تعالى"، قال أبو سعيد: فالله المتكلم أولا وآخرا، لم يزل له الكلام، إذ لا متكلم غيره، ولا يزال له الكلام، إذ لا يبقى متكلم غيره، فيقول: لمن الملك اليوم [ سورة غافر: 16] أنا [ ص: 61 ] الملك، أنا الديان، أين ملوك الأرض؟ فلا ينكر كلام الله إلا من يريد إبطال ما أنزل الله عز وجل، وكيف يعجز عن الكلام من علم العباد الكلام وأنطق الأنام؟ قال الله تعالى في كتابه وكلم الله موسى تكليما [ سورة النساء: 164] فهذا لا يحتمل تأويلا غير نفس الكلام، وقال لموسى: إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي [ سورة الأعراف: 144] وقال الله تعالى: وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ سورة البقرة: 75] وقال يريدون أن يبدلوا كلام الله [ سورة الفتح: 15] وقال لا تبديل لكلمات الله [ سورة يونس: 64] وقال: وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته [ سورة الأنعام: 115].

وذكر آيات أخر، إلى أن قال: "وقال تعالى لقوم موسى حين اتخذوا العجل فقال أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا [ سورة طه: 89] وقال: عجلا جسدا له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا اتخذوه وكانوا ظالمين [ سورة الأعراف: 148]. [ ص: 62 ]

قال أبو سعيد: ففي كل ما ذكرنا تحقيق كلام الله وتثبيته نصا بلا تأويل، ففيما عاب الله تعالى به العجل في عجزه عن القول والكلام بيان أن الله غير عاجز عنه، وأنه متكلم، وقائل، لأنه لم يكن ليعيب العجل بشيء هو موجود فيه.

وقال إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون [ سورة الأنبياء: 63] إلى قوله أفلا تعقلون [ سورة الأنبياء: 67]، فلم يعب إبراهيم أصنامهم وآلهتهم التي يعبدون بالعجز عن الكلام إلا وأن إلهه متكلم قائل".

وبسط الكلام في ذلك، إلى أن قال: "أرأيتم قولكم: إنه مخلوق، فما بدء خلقه؟ أقال الله له "كن" فكان كلاما قائما بنفسه بلا متكلم به؟ فقد علم الناس - إلا ما شاء الله منهم - أن الله لم يخلق كلاما يرى ويسمع بلا متكلم به، فلا بد من أن تقولوا في دعواكم: [ ص: 63 ] الله المتكلم بالقرآن، فأضفتموه إلى الله، فهذا أجور الجور وأكذب الكذب: أن تضيفوا كلام المخلوق إلى الخالق، ولو لم يكن كفرا كان كذبا بلا شك فيه، فكيف وهو كفر لا شك فيه؟ لا يجوز لمخلوق يؤمن بالله واليوم الآخر أن يدعي الربوبية ويدعو الخلق إلى عبادته فيقول: إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني [ سورة طه: 14] و إني أنا ربك [ سورة طه: 12].

وأنا اخترتك [ سورة طه: 13]، واصطنعتك لنفسي اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري [ سورة طه: 41 - 42] إنني معكما أسمع وأرى [ سورة طه: 46]، وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون [ سورة الذاريات: 56]. ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم [ سورة يس: 60 - 61] قد علم الخلق - إلا من أضله الله - أنه لا يجوز لأحد أن يقول هذا وما أشبهه ويدعيه غير الخالق، بل القائل به والداعي إلى عبادة غير الله كافر كفرعون الذي قال: أنا ربكم الأعلى [ سورة النازعات: 24]، والمجيب له والمؤمن بدعواه أكفر وأكذب.

وإن قلتم: تكلم به مخلوق فأضفناه إلى الله ؛ لأن الخلق كلهم [ ص: 64 ] بصفاتهم وكلامهم لله، فهذا المحال الذي ليس وراءه محال، فضلا عن أن يكون كفرا ؛ لأن الله عز وجل لم ينسب شيئا من الكلام كله إلى نفسه أنه كلامه غير القرآن وما أنزل على رسله، فإن قد تم كلامكم ولزمتموه لزمكم أن تسموا الشعر وجميع الغناء والنوح وكلام السباع والبهائم والطير كلام الله، فهذا مما لا يختلف المصلون في بطوله واستحالته. فما فضل القرآن إذا عندكم على الغناء والنوح والشعر إذ كان كله في دعواكم كلام الله؟ فكيف خص القرآن بأنه كلام الله ونسب كل كلام إلى قائله؟ فكفى بقوم ضلالا أن يدعوا قولا لا يشك الموحدون في بطوله واستحالته.

التالي السابق


الخدمات العلمية