الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال ( 12 ) ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ( 13 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ( هو الذي يريكم البرق ) ، يعني أن الرب هو الذي يري عباده البرق وقوله : ( هو ) كناية اسمه جل ثناؤه .

وقد بينا معنى "البرق" فيما مضى ، وذكرنا اختلاف أهل التأويل فيه بما أغنى [ ص: 387 ] عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : ( خوفا ) يقول : خوفا للمسافر من أذاه . وذلك أن "البرق" الماء ، في هذا الموضع كما : -

20251 - حدثني المثنى قال : حدثنا حجاج قال : حدثنا حماد قال : أخبرنا موسى بن سالم أبو جهضم ، مولى ابن عباس قال : كتب ابن عباس إلى أبي الجلد يسأله عن "البرق" فقال : "البرق" الماء .

وقوله : ( وطمعا ) يقول : وطمعا للمقيم أن يمطر فينتفع . كما : -

20252 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : ( هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا ) ، يقول : خوفا للمسافر في أسفاره ، يخاف أذاه ومشقته ( وطمعا ، ) للمقيم ، يرجو بركته ومنفعته ، ويطمع في رزق الله .

20253 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : ( خوفا وطمعا ) خوفا للمسافر ، وطمعا للمقيم .

وقوله : ( وينشئ السحاب الثقال ) : ويثير السحاب الثقال بالمطر ويبدؤه .

يقال منه : أنشأ الله السحاب : إذا أبدأه ، ونشأ السحاب : إذا بدأ ينشأ نشأ .

و "السحاب" في هذا الموضع ، وإن كان في لفظ واحد ، فإنها جمع ، واحدتها "سحابة" ولذلك قال : "الثقال" فنعتها بنعت الجمع ، ولو كان جاء : "السحاب الثقيل" كان جائزا ، وكان توحيدا للفظ السحاب ، كما قيل : [ ص: 388 ] ( الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا ) [ سورة يس : 80 ] .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20254 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا شبابة قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( وينشئ السحاب الثقال ) ، قال : الذي فيه الماء .

20255 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20256 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20257 - . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .

20258 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : ( وينشئ السحاب الثقال ) قال : الذي فيه الماء .

وقوله : ( ويسبح الرعد بحمده ) .

قال أبو جعفر : وقد بينا معنى الرعد فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد قال كما :

20259 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا كثير بن هشام قال : حدثنا جعفر قال : بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد الشديد [ ص: 389 ] قال : " اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك" .

20260 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبيه ، عن رجل ، عن أبي هريرة رفع الحديث : أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من يسبح الرعد بحمده" .

20261 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا مسعدة بن اليسع الباهلي ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن علي رضي الله عنه ، كان إذا سمع صوت الرعد قال : "سبحان من سبحت له" .

20262 - . . . قال : حدثنا إسماعيل ابن علية ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان الذي سبحت له .

20263 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا يعلى بن الحارث قال : سمعت أبا صخرة يحدث عن الأسود بن يزيد ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من سبحت له . أو : "سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته "

. [ ص: 390 ] 20264 - . . . قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن طاوس ، عن أبيه وعبد الكريم ، عن طاوس أنه كان إذا سمع الرعد قال : "سبحان من سبحت له .

20265 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا حجاج ، عن ميسرة ، عن الأوزاعي قال : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : "سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .

ومعنى قوله : ( ويسبح الرعد بحمده ) ، ويعظم الله الرعد ويمجده ، فيثني عليه بصفاته ، وينزهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد ، تعالى ربنا وتقدس .

وقوله : ( من خيفته ) يقول : وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته .

وأما قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) .

فقد بينا معنى الصاعقة ، فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته ، بما فيه الكفاية من الشواهد ، وذكرنا ما فيها من الرواية .

وقد اختلف فيمن أنزلت هذه الآية .

فقال بعضهم : نزلت في كافر من الكفار ذكر الله تعالى وتقدس بغير ما ينبغي ذكره به ، فأرسل عليه صاعقة أهلكته .

[ ص: 391 ] ذكر من قال ذلك :

20266 - حدثنا الحسن بن محمد قال : حدثنا عفان قال : حدثنا أبان بن يزيد قال : حدثنا أبو عمران الجوني ، عن عبد الرحمن بن صحار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبار يدعوه ، فقال : "أرأيتم ربكم ، أذهب هو أم فضة هو أم لؤلؤ هو؟" قال : فبينما هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت ، فأرسل الله عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه فأنزل الله هذه الآية : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

20267 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق بن سليمان ، عن أبي بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد قال : جاء يهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أخبرني عن ربك من أي شيء هو ، من لؤلؤ أو من ياقوت؟ فجاءت صاعقة فأخذته ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

20268 - حدثني المثنى قال : حدثنا الحماني قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، عن ليث ، عن مجاهد ، مثله .

20269 - . . . قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، حدثني من هذا الذي تدعو إليه؟ أياقوت [ ص: 392 ] هو ، أذهب هو ، أم ما هو؟ قال : فنزلت على السائل الصاعقة فأحرقته ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق ) الآية .

20270 - حدثنا محمد بن مرزوق قال : حدثنا عبد الله بن عبد الوهاب قال : حدثني علي بن أبي سارة الشيباني قال : حدثنا ثابت البناني ، عن أنس بن مالك قال : بعث النبي صلى الله عليه وسلم مرة رجلا إلى رجل من فراعنة العرب ، أن ادعه لي ، فقال : يا رسول الله ، إنه أعتى من ذلك! قال : اذهب إليه فادعه . قال : فأتاه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوك! فقال : من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة ، أم من نحاس؟ قال : فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه" قال : فأتاه فأعاد عليه ورد عليه مثل الجواب الأول . فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : ارجع إليه فادعه! قال : فرجع إليه . فبينما هما يتراجعان الكلام بينهما ، إذ بعث الله سحابة بحيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، فأنزل الله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

[ ص: 393 ] وقال آخرون : نزلت في رجل من الكفار أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم .

ذكر من قال ذلك :

20271 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلا أنكر القرآن وكذب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله عليه صاعقة فأهلكته ، فأنزل الله عز وجل فيه : ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) .

وقال آخرون : نزلت في أربد أخي لبيد بن ربيعة ، وكان هم بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وعامر بن الطفيل .

ذكر من قال ذلك :

20272 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج قال : نزلت يعني قوله : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء ) في أربد أخي لبيد بن ربيعة ؛ لأنه قدم أربد وعامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عامر : يا محمد أأسلم وأكون الخليفة من بعدك؟ قال : لا! قال : فأكون على أهل الوبر وأنت على أهل المدر؟ قال : لا! قال : فما ذاك؟ قال : "أعطيك أعنة الخيل تقاتل عليها ، فإنك رجل فارس . قال : أوليست أعنة الخيل بيدي؟ أما والله لأملأنها عليك خيلا ورجالا من بني عامر! قال لأربد : إما أن تكفينيه وأضربه بالسيف ، وإما أن أكفيكه وتضربه بالسيف .

[ ص: 394 ] قال أربد : اكفنيه وأضربه . فقال ابن الطفيل : يا محمد إن لي إليك حاجة . قال : ادن! فلم يزل يدنو ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : "ادن" حتى وضع يديه على ركبتيه وحنى عليه ، واستل أربد السيف ، فاستل منه قليلا فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم بريقه تعوذ بآية كان يتعوذ بها ، فيبست يد أربد على السيف ، فبعث الله عليه صاعقة فأحرقته ، فذلك قول أخيه :


أخشى على أربد الحتوف ولا أرهب نوء السماك والأسد     فجعني البرق والصواعق بال
فارس يوم الكريهة النجد



وقد ذكرت قبل خبر عبد الرحمن بن زيد بنحو هذه القصة .

وقوله : ( وهم يجادلون في الله ) ، يقول : وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم .

وقوله : ( وهو شديد المحال ) يقول تعالى ذكره : والله شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره .

و "المحال" مصدر من قول القائل : ماحلت فلانا فأنا أماحله مماحلة ومحالا و "فعلت" منه : محلت أمحل محلا إذا عرض رجل رجلا لما يهلكه؛ ومنه قوله : "وماحل مصدق" ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

[ ص: 395 ]

فرع نبع يهتز في غصن المج     د غزير الندى شديد المحال

هكذا كان ينشده معمر بن المثنى فيما حدثت عن علي بن المغيرة عنه . وأما الرواة بعد فإنهم ينشدونه :


فرع فرع يهتز في غصن المج     د كثير الندى عظيم المحال

وفسر ذلك معمر بن المثنى ، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال؛ ومنه قول الآخر :


ولبس بين أقوام فكل     أعد له الشغازب والمحالا

[ ص: 396 ] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

20273 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن هاشم قال : حدثنا سيف ، عن أبي روق ، عن أبي أيوب ، عن علي رضي الله عنه : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد الأخذ .

20274 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال : حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد القوة .

20275 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( وهو شديد المحال ) أي القوة والحيلة .

20276 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن : ( شديد المحال ) يعني : الهلاك قال : إذا محل فهو شديد وقال قتادة : شديد الحيلة .

20277 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا رجل ، عن عكرمة : ( وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال ) ، قال : جدال أربد ( وهو شديد المحال ) قال : ما أصاب أربد من الصاعقة .

20278 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وهو شديد المحال ) قال : قال ابن عباس : شديد الحول .

20279 - حدثني يونس قال : أخبرنا ابن وهب قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( وهو شديد المحال ) قال : شديد القوة ، "المحال" القوة .

قال أبو جعفر : والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل "المحال" أنه الحيلة ، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن : [ ص: 397 ] " ( وهو شديد المحال ) بفتح الميم؛ لأن الحيلة لا يأتي مصدرها "محالا" بكسر الميم ، ولكن قد يأتي على تقدير "المفعلة" منها ، فيكون محالة ، ومن ذلك قولهم : "المرء يعجز لا محالة ، و "المحالة" في هذا الموضع ، "المفعلة" من الحيلة ، فأما بكسر الميم ، فلا تكون إلا مصدرا ، من "ماحلت فلانا أماحله محالا" و "المماحلة" بعيدة المعنى من "الحيلة" .

قال أبو جعفر : ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم . فإذا كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول .

التالي السابق


الخدمات العلمية