الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب

في رد الإشراك في العبادات

والمراد بالعبادة هنا: أمور علمها الله تعالى عباده لتعظيمه وتكريمه، وجعلها علامة العبودية لهم. فمن أشرك غيره فيها، فقد خالف التوحيد، وجاء بنقيضه، قال الله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين [هود: 25 26]. المعنى: نهيتكم عن عبادة غير الله؛ لأني أخاف عليكم، تقدم تفسير هذه الآية في الباب الأول من هذا الكتاب.

والذي ذكره بعض أهل العلم في هذا المقام: هو أن التنازع بين المسلمين والكافرين إنما شرع من زمن نوح -عليه السلام- الذي كان آدما ثانيا للأنام.

فمن ذلك الزمان جاء هذا النزاع بين بني الإنسان. ومن ذاك العصر يقول العباد المقبولون عند الله: إنه لا يجوز تعظيم أحد من دون الله كتعظيم الله تعالى، وإن كل ما يعمل له سبحانه تعظيما وإجلالا وتكريما، لا يجوز أن يعمل لغيره كائنا من كان؛ لأن الإتيان بمثله لغير الله تعالى هو الذي يقال له: الإشراك في العبادة.

وقد تقرر أن العبادة لا تجوز إلا لله، وأنه هو المستحق لها. فكل ما يسمى في الشرع عبادة، ويصدق عليه مسماها، فإن الله يستحقه، ولا استحقاق لغيره فيها، وإن كان مثقال ذرة في السماوات والأرض. [ ص: 51 ] ومن أشرك فيها أحدا من دون الله، فقد جاء بالشرك، وكتب اسمه في ديوان الكفر. ومن هذا الذي يستحق العبادة غير الله وهو مخلوق له سبحانه؟ وأنى للمخلوق أن يعبد دون الخالق؟! هذا شأن الصانع القديم الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون [الأنعام: 91] و لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون [الحجر: 72].

وبالجملة: فالآية الشريفة دالة على توحيد الألوهية على الإطلاق، وعلى أن المعبود بحق هو الله، وأن نوحا دعا أمته إليه، وكذا سائر الرسل.

وقال تعالى: لا تسجدوا للشمس ولا للقمر [فصلت: 37]؛ لأنهما مخلوقان من مخلوقاته، وإن كثرت منافعهما، فلا يصح أن يكونا شريكين له في ربوبيته.

واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون [فصلت: 37]، قيل: كانوا يسجدون لهما كالصابئين في عبادتهم الكواكب، ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله، فنهوا عن ذلك. فهذا وجه تخصيص ذكر السجود بالنهي عنه. وقيل: وجه النهي أنه أقصى مراتب العبادة.

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن من أراد أن يكون عبدا لله خالصا، فلا يسجد إلا له سبحانه، ولا يسجد للشمس والقمر، نبه بهما على غيرهما من المخلوق العلوي. فالسفلي من الأحجار، والأشجار، والضرائح، ونحوها، بالأولى.

وقد دلت هذه الآية على أن ديننا، هو أن السجود حق الخالق، فلا يسجد لمخلوق أصلا -كائنا ما كان- فإن المخلوقية يتساوى فيها الشمس والقمر، والولي والنبي، والحجر والمدر والشجر، ونحوها.

ولا يقال: إن السجدة كانت في الملل الخالية لبعض المخلوقين كما سجد [ ص: 52 ] الملائكة لآدم أبي البشر -عليه السلام - وسجد يعقوب النبي -عليه السلام- ليوسف النبي - عليه السلام - فإن سجدنا لكبير أو كريم لا مضايقة فيه؛ لأنا نقول: إن هذا القول إرجاف باطل، وغلط محض، وجهل صرف؛ فإن ناسا في زمن آدم كانوا ينكحون أخواتهم. فعلى المحتجين بمثل هذه الحجج أن ينكحوا أخواتهم أيضا، مع أنهم لا يجوزون ذلك، ولا يأتون بما هنالك.

وأصل الأمر: أن على العبد أن ينقاد لحكم الخالق، ولا يستعمل عقله في أوامره ونواهيه، بل كل ما يأمر به الرب يقبله بالقلب واللسان، ويأتي به بالأركان في كل شأن وزمان، ولا يعارضه بأن هذا الحكم لم يكن على من قبلنا، فكيف أمرنا به، أو نهانا عنه؟

فإن الاحتجاج بمثل هذه الحجج، والاستدلال بنحو هذا التعارض، يكفر المحتج المستدل. ومثال هذا: أن ملكا من ملوك أجرى حكما في مملكته إلى أمد، ثم رفعه، وأجرى حكما آخر، فإن قال أحد: إنا نعمل بالحكم الأول السابق، ولا نأتي بالحكم الآخر اللاحق. فهو باغ، وحكم الباغي معلوم بالضرورة الدينية.

فتقرر بهذا أن السجدة هي من العبادات التي اختصت به تعالى في شرعنا هذا، ولا تجوز هذه العبادة لغير الله، أي غير كان، وفي أي زمان ومكان كان.

وقال تعالى وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا [الجن: 89] من خلقه كائنا من كان. هذا توبيخ للمشركين في دعائهم مع الله غيره في المسجد الحرام.

قال مجاهد: كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم، أشركوا بالله. [ ص: 53 ] فأمر الله نبيه والمؤمنين أن يخلصوا الله الدعوة إذا دخلوا المساجد كلها. يقول: فلا تشركوا فيها صنما أو غيره مما يعبد.

وقيل: المعنى: أفردوا المساجد بذكر الله تعالى، ولا تجعلوا لغير الله تعالى فيها نصيبا.

وفي الصحيح: «من نشد ضالة في المسجد، فقولوا: لا، ردها الله عليك»؛ فإن المساجد لم تبن لهذا.

وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا [الجن: 19]، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ولم يقل: نبي الله، أو رسول الله؛ لأنه من أحب الأسماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ولأنه لما كان واقعا في كلامه صلى الله عليه وسلم عن نفسه، جيء به على ما يقتضيه التواضع، أو لأن عبادة الله المستفادة من قوله: يدعوه ليست بمستبعدة. ومعنى لبدا : يركب بعضهم بعضا.

قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا [الجن: 20] أي: قل يا رسول الله مجيبا للكفار: إنما أعبد ربي وحده، ولا أشرك به في العبادة أحدا من خلقه.

قال بعض أهل العلم في تفسير هذه الآية: إن عبد الله إذا دعاه بخلوص قلبه، يظن الناس الجاهلون السفهاء أنه صار عظيما كبيرا، يعطي من شاء ما شاء، وينزع ما شاء ممن شاء، فيهجمون عليه بناء على هذا الخيال المختل، والظن المعتل. فينبغي لذلك العبد أن يظهر الأمر الحق، وهو أن الدعاء عند الإشكال حق الله تعالى. ورجاء النفع وخوف الضرر إنما يليق به سبحانه، لا بغيره. وفي هذه المعاملة مع غيره شرك به، وأنا بريء من الشرك. فمن عاملني بهذه المعاملة إرادة لرضائي، فليس هذا بممكن، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أن القيام أدبا، وذكره سرمدا، مما خصه الله [ ص: 54 ] لتعظيمه، والإتيان به لغير الله شرك يصير به صاحبه مشركا.

التالي السابق


الخدمات العلمية