الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 633 ] فصل

[ أقسام العام ] .

العام على ثلاثة أقسام :

الأول : الباقي على عمومه : قال القاضي جلال الدين البلقيني ومثاله عزيز ، إذ ما من عام إلا ويتخيل فيه التخصيص ، فقوله ياأيها الناس اتقوا ربكم [ الحج : 1 ] . قد يخص منه غير المكلف . و حرمت عليكم الميتة [ المائدة : 3 ] . خص منها حالة الاضطرار ، وميتة السمك والجراد . ( وحرم الربا ) [ البقرة : 275 ] خص منه العرايا .

وذكر الزركشي في " البرهان " أنه كثير في القرآن ، وأورد منه : وأن الله بكل شيء عليم [ المائدة : 97 ] . إن الله لا يظلم الناس شيئا [ يونس : 44 ] . ولا يظلم ربك أحدا [ الكهف : 49 ] . والله خلقكم من تراب ثم من نطفة [ فاطر : 11 ] . الله الذي جعل لكم الأرض قرارا [ غافر : 64 ] .

قلت : هذه الآيات كلها في غير الأحكام الفرعية ، فالظاهر أن مراد البلقيني أنه عزيز في الأحكام الفرعية . وقد استخرجت من القرآن بعد الفكر آية فيها ، وهي قوله : حرمت عليكم أمهاتكم [ النساء : 23 ] . الآية ; فإنه لا خصوص فيها .

الثاني : العام المراد به المخصوص .

الثالث : العام المخصوص .

[ ص: 634 ] وللناس بينهما فروق :

أن الأول : لم يرد شموله لجميع الأفراد ، لا من جهة تناول اللفظ ، ولا من جهة الحكم ; بل هو ذو أفراد استعمل في فرد منها .

والثاني : أريد عمومه وشموله لجميع الأفراد ، من جهة تناول اللفظ لها ، لا من جهة الحكم .

ومنها : أن الأول مجاز قطعا ، لنقل اللفظ عن موضوعه الأصلي . بخلاف الثاني ; فإن فيه مذاهب أصحها أنه حقيقة ، وعليه أكثر الشافعية وكثير من الحنفية وجميع الحنابلة ، ونقله إمام الحرمين عن جميع الفقهاء . وقال الشيخ أبو حامد : إنه مذهب الشافعي وأصحابه ، وصححه السبكي ; لأن تناول اللفظ للبعض الباقي بعد التخصيص كتناوله له بلا تخصيص ، وذلك التناول حقيقي اتفاقا ، فليكن هذا التناول حقيقيا أيضا .

ومنها : أن قرينة الأول عقلية ، والثاني لفظية .

ومنها : أن قرينة الأول لا تنفك عنه ، وقرينة الثاني قد تنفك عنه .

ومنها : أن الأول يصح أن يراد به واحد اتفاقا ، وفي الثاني خلاف .

ومن أمثلة المراد به الخصوص : قوله تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم [ آل عمران : 173 ] . والقائل واحد : نعيم بن مسعود الأشجعي أو أعرابي من خزاعة ، كما أخرجه ابن مردويه من حديث أبي رافع لقيامه مقام كثير في تثبيط المؤمنين عن ملاقاة أبي سفيان .

قال الفارسي : ومما يقوي أن المراد به واحد قوله : إنما ذلكم الشيطان [ آل عمران : 175 ] . فوقعت الإشارة بقوله : ذلك متاع إلى واحد بعينه ، ولو كان المعنى جمعا لقال : ( إنما أولئكم الشيطان ) فهذه دلالة ظاهرة في اللفظ .

ومنها قوله تعالى : أم يحسدون الناس [ النساء : 54 ] . أي : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعه ما في الناس من الخصال الحميدة .

ومنها قوله : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس [ البقرة : 199 ] . أخرج ابن [ ص: 635 ] جرير من طريق الضحاك ، عن ابن عباس ، في قوله : من حيث أفاض الناس قال : إبراهيم - عليه السلام - .

ومن الغريب قراءة سعيد بن جبير : ( من حيث أفاض الناسي ) قال : في " المحتسب " : يعني آدم ، لقوله فنسي ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] .

ومنها : قوله تعالى : فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب [ آل عمران : 39 ] أي : جبريل ، كما في قراءة ابن مسعود .

وأما المخصوص : فأمثلته في القرآن كثيرة جدا ، وهو أكثر من المنسوخ ، إذ ما من عام إلا وقد خص .

ثم المخصص له : إما متصل وإما منفصل :

فالمتصل : خمسة وقعت في القرآن :

أحدها : الاستثناء : نحو : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا [ النور : 4 - 5 ] . والشعراء يتبعهم الغاوون إلى قوله : إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات الآية [ الشعراء : 224 - 227 ] . ومن يفعل ذلك يلق أثاما إلى قوله : إلا من تاب [ الفرقان : 68 - 70 ] . والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم [ النساء : 24 ] . كل شيء هالك إلا وجهه [ القصص : 88 ] .

الثاني : الوصف : نحو : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن [ النساء : 23 ] .

الثالث : الشرط : نحو : والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا [ النور : 33 ] كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية [ البقرة : 180 ] .

الرابع : الغاية : نحو : قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر إلى قوله : حتى يعطوا الجزية [ التوبة : 29 ] ولا تقربوهن حتى يطهرن [ البقرة : 222 ] . [ ص: 636 ] ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله [ البقرة : 196 ] . وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض الآية [ البقرة : 187 ] .

والخامس : بدل البعض من الكل : نحو : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ آل عمران : 97 ] .

والمنفصل : آية أخرى في محل آخر ، أو حديث ، أو إجماع ، أو قياس .

ومن أمثلة ما خص بالقرآن : قوله تعالى : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء [ البقرة : 187 ] . خص بقوله : إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة [ الأحزاب : 49 ] ، وبقوله وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن [ الطلاق : 4 ] .

وقوله : حرمت عليكم الميتة والدم [ المائدة : 3 ] . خص من الميتة السمك بقوله : أحل لكم صيد البحر وطعامه متاعا لكم وللسيارة [ المائدة : 96 ] . ومن الدم الجامد بقوله أو دما مسفوحا [ الأنعام : 145 ] .

وقوله : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا [ النساء : 20 ] الآية ، خص بقوله تعالى : فلا جناح عليهما فيما افتدت به [ البقرة : 229 ] .

وقوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] خص بقوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء : 25 ] .

وقوله : فانكحوا ما طاب لكم من النساء [ النساء : 3 ] خص بقوله : حرمت عليكم أمهاتكم : الآية [ النساء : 23 ] .

ومن أمثلة ما خص بالحديث : قوله تعالى : وأحل الله البيع [ البقرة : 275 ] . خص منه البيوع الفاسدة - وهي كثيرة - بالسنة .

وحرم الربا [ البقرة : 275 ] خص منه العرايا بالسنة .

[ ص: 637 ] وآيات المواريث : خص منها القاتل والمخالف في الدين بالسنة .

وآية تحريم الميتة : خص منها الجراد بالسنة .

وآية : ثلاثة قروء [ البقرة : 228 ] خص منها الأمة بالسنة .

وقوله : ماء طهورا [ الفرقان : 48 ] خص منه المتغير بالسنة .

وقوله : والسارق والسارقة فاقطعوا [ المائدة : 38 ] خص منه من سرق دون ربع دينار بالسنة .

ومن أمثلة ما خص بالإجماع : آية المواريث ، خص منها الرقيق ، فلا يرث بالإجماع ، ذكره مكي .

ومن أمثلة ما خص بالقياس : آية الزنا : فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة [ النور : 2 ] خص منها العبد بالقياس على الأمة المنصوصة في قوله : فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب [ النساء : 25 ] المخصص لعموم الآية . ذكره مكي - أيضا - .

التالي السابق


الخدمات العلمية