الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 149 ] باب بيع أمهات الأولاد

( قال ) رضي الله عنه بيع أم الولد باطل في قول جمهور الفقهاء وكان بشر المريسي وداود ومن تبعه من أصحاب الظواهر رضوان الله عليهم أجمعين يجوزون بيعها ; لأن المالية والمحلية للبيع قبل الولادة معلوم فيها بيقين فلا يرتفع إلا بيقين مثله وخبر الواحد لا يوجب علم اليقين ولكنا نقول في معارضة هذا الكلام لما حبلت من المولى امتنع بيعها بيقين فلا يرتفع ذلك إلا بيقين مثله ولا يقين بعد انفصال الولد ( فإن قال ) إنما امتنع بيعها لأن في بطنها ولدا حرا وقد علمنا انفصاله عنها ( قلنا ) لا كذلك بل إنما امتنع بيعها لثبوت الحرية في جزء منها فإن الولد يعلق من الماءين حر الأصل وماؤها جزء منها وثبوت الحرية لجزء منها مانع من بيعها وهذا المعنى لا يرتفع بالانفصال وإليه أشار عمر رضي الله عنه فقال : أبعد ما اختلطت لحومكم بلحومهن ودماؤكم بدمائهن . أو إنما امتنع بيعها لأنها صارت منسوبة إليه بواسطة الولد : يقال أم ولده ، وهذه النسبة توجب العتق فيمتنع البيع ضرورة وبالانفصال يتقرر هذا المعنى ولا يرتفع ثم الآثار المشهورة تدل على ذلك فمنه حديث عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { أيما أمة ولدت من سيدها فهي معتقة عن دبر منه } { ولما ولدت مارية إبراهيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنها وقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تعتقها قال قد أعتقها ولدها } ففي هذين الحديثين دليل استحقاق العتق لها وذلك يمنع البيع وفي حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال { أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتق أمهات الأولاد من غير الثلث وأن لا يبعن في دين } ففيه دليل استحقاق العتق وانعدام المالية والتقوم فيها حين لم يجعل عتقها من الثلث ولم يثبت حق الغرماء فيها وفيه دليل أنه لا يجوز بيعها لحاجة المولى في حياته ولا بعد موته وحديث { سلامة بنت معقل قالت اشتراني الحباب بن عمرو فولدت منه ثم مات فجئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني ولدت من الحباب فقال من وارث الحباب فقال أبو بشر بن عمرو فقال أعتقوا هذه فإذا أتانا سبي فأتونا حتى نعوضكم } وتأويله أن وارث الحباب كان ينكر ولادتها منه ومع ذلك أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعتقها احتياطا ووعده العوض من عنده فهو دليل على أن الاستيلاد إذا كان ظاهرا ثبت به استحقاق العتق [ ص: 150 ] ولا يجوز بيعها

. وحديث عبيدة السلماني عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال استشارني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في عتق أمهات الأولاد فاجتمعت أنا وهو على عتقهن ثم رأيت بعد ذلك أن أرقهن فقال أبو عبيدة رأي ذوي عدل أحب إلي من رأي ذي عدل وحده فدل أنهم كانوا مجمعين على استحقاق العتق لها في الابتداء ( فإن قيل ) فكيف جوز علي رضي الله تعالى عنه مخالفة الإجماع بعد ذلك ؟ ( قلنا ) يحتمل أنه كان من مذهبه أن الإجماع لا يتم إلا بانقراض ذلك العصر ويحتمل أن معنى قوله ثم رأيت أن أرقهن إلى أداء السعاية فلا يكون هذا منه خلافا في أصل استحقاق العتق بل في صفته أنه من الثلث أو من جميع المال وعن إبراهيم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان ينادي على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا إن بيع أمهات الأولاد حرام ولا رق عليها بعد موت مولاها وعن إبراهيم في أم الولد إذا أسقطت سقطا استبان خلقه كانت به أم ولد هكذا روى عنه حماد وروى عنه الحكم إذا أسقطت مضغة أو علقة كانت به أم ولد وكأنه على هذه الرواية اعتبر نفس اختلاط الماءين كما في حديث عمر رضي الله عنه ولسنا نأخذ بهذا وإنما نأخذ بحديث حماد عنه ; لأن السقط الذي لم يستبن شيء من خلقه ليس بولد فلا تصير به أم ولد بخلاف السقط الذي استبان بعض خلقه فإنه ولد في الأحكام فيتحقق نسبتها إليه بواسطة .

وإذا أقر الرجل أن حمل أمته منه صارت أم ولد له ، وله خدمتها ووطؤها ولا يجوز له أن ينقل ملكها إلى غيره أما إذا ظهر ولادتها بعد هذا الإقرار فلا إشكال فيه ; لأن نسب الولد ثبت منه بإقراره فإن ثبوت النسب من وقت العلوق بإقراره وإقراره مصادف محله ، وأما إذا لم تظهر ولادتها وزعم المولى أنه كان ريحا في بطنها وصدقته في ذلك فهي بمنزلة أم الولد أيضا ; لأن الحمل اسم للولد وقد ثبت لها حق العتق بإقراره المتقدم فلا يصدقان على إبطاله كما لا يصدقان على إبطال حقيقة العتق ، وكذلك لو كان قال ما في بطنك من ولد فهو مني ولو كان قال ما في بطنك مني ثم تصادقا أنه كان ريحا في بطنها فله أن يبيعها ; لأنه ليس في لفظه تصريح بوجود الولد في بطنها فلا يكون مقرا لها بحق العتق بهذا اللفظ بخلاف ما سبق وإن قال إن كانت حبلى فهو مني فولدت ولدا أو أسقطت سقطا قد استبان خلقه فإن أقر المولى به فهي أم ولده إذا جاءت بالولد لأقل من ستة أشهر ; لأن ولادتها هذا الولد ثبت بإقراره ووجوده في البطن عند دعواه معلوم وإن أنكر المولى الولادة فشهدت عليه امرأة جاز ذلك وثبت النسب [ ص: 151 ] لأن الولادة تثبت بشهادة المرأة الواحدة كما تثبت بإقراره ثم النسب وأمية الولد إنما تثبت بإقرار المولى لا بشهادة القابلة .

وإذا ولدت المدبرة من السيد صارت أم ولد له وبطل التدبير . معناه أنه لا يظهر حكم التدبير بعد ثبوت أمية الولد ; لأن كل واحد منهما يوجب استحقاق العتق لها في الحال وتعلق التنجز بموت المولى ، والاستحقاق بالاستيلاد أقوى حتى يكون من جميع المال ، والتدبير من الثلث ، والضعيف لا يظهر في مقابلة القوي فلهذا قال : وقد بطل التدبير .

وإذا أقر في صحته أن أمته هذه قد ولدت منه صارت أم ولده ; لأنه أقر باستحقاق العتق لها في حال يملك إنشاء عتقها مطلقا والمقر يعامل في حق نفسه كأنما أقر به حق إذا لم يكن في المحل حق لأحد سواه كان الثابت بإقراره كالثابت بالمعاينة ، وإن أقر بذلك في مرضه فإن كان معها ولد فكذلك الجواب ; لأن نسب الولد ثبت منه فإن المريض غير محجور على الإقرار بالنسب وثبوت نسب الولد شاهد لها بمنزلة ما لو أقامت البينة على أنها أم ولده وإن لم يكن معها ولد عتقت من الثلث ; لأن إقراره لها باستحقاق العتق بمنزلة تنجيز العتق ولو نجز عتقها كان من الثلث ; لأن حق الورثة قد تعلق بمرضه . توضيحه أنه إذا كان معها ولد فهو محتاج إلى إثبات نسب ولده منه كي لا يضيع نسله ، وحاجته مقدم على حق الورثة فإنما صرفها مع ولدها إلى حاجته فكانت من جميع ماله وإذا لم يكن معها ولد فهو بكلامه ما صرفها إلى حاجته بل أقر بعتقها بعد موته فيكون معتبرا من ثلثه .

التالي السابق


الخدمات العلمية