الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              2742 (13) باب

                                                                                              كيفية اللعان ووعظ المتلاعنين

                                                                                              [ 1562 ] عن سعيد بن جبير قال: سئلت عن المتلاعنين في إمرة مصعب أيفرق بينهما؟ قال: فما دريت ما أقول، فمضيت إلى منزل ابن عمر بمكة فقلت للغلام: استأذن لي قال: إنه قائل فسمع صوتي فقال ابن جبير؟ قلت: نعم. قال: ادخل، فوالله ما جاء بك في هذه الساعة إلا حاجة. فدخلت فإذا هو مفترش برذعة متوسد وسادة حشوها ليف. قلت: أبا عبد الرحمن، المتلاعنان أيفرق بينهما؟ قال: سبحان الله، نعم إن أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان، قال: يا رسول الله، أرأيت لو وجد أحدنا امرأته على فاحشة كيف يصنع؟ إن تكلم تكلم بأمر عظيم، وإن سكت سكت على مثل ذلك؟ قال: فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبه، فلما كان بعد ذلك أتاه فقال: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به فأنزل الله عز وجل هؤلاء الآيات في سورة النور: والذين يرمون أزواجهم [النور: 6 - 9]. فتلاهن عليه ووعظه، وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال: لا والذي بعثك بالحق ما كذبت عليها، ثم دعاها فوعظها وذكرها، وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قالت: لا والذي بعثك بالحق إنه لكاذب، فبدأ بالرجل فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ثم ثنى بالمرأة فشهدت أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين، والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين ثم فرق بينهما.

                                                                                              وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها. قال: يا رسول الله مالي؟ قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها، وإن كنت كذبت عليها فذاك أبعد لك منها.


                                                                                              رواه أحمد ( 2 \ 11 و 42)، والبخاري (5311)، ومسلم (1493) (4 و 5)، وأبو داود (2257)، والترمذي (1202)، والنسائي ( 6 \ 177 ).

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (13) ومن باب كيفية اللعان

                                                                                              (قوله: إنه قائل ): هو اسم فاعل من: قال يقيل؛ إذا نام في كنه وقت [ ص: 295 ] القائلة.

                                                                                              و (قوله: أول من سأل عن ذلك فلان بن فلان ) هو - والله أعلم: عويمر العجلاني المتقدم الذكر.

                                                                                              و (قوله: إن الذي سألتك عنه قد ابتليت به ) ظاهر هذا: أنه خطاب من السائل للنبي صلى الله عليه وسلم لما لم يجبه، فأخبره بوقوع ذلك له، ليحقق عنده: أنه مضطر إلى المسألة فيجيبه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جاء في "الأم" من حديث ابن عباس قال: ذكر التلاعن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عاصم بن عدي في ذلك قولا، ثم انصرف، فأتاه رجل من قومه يشكو إليه: أنه وجد مع امرأته رجلا. فقال عاصم : ما ابتليت بهذا إلا لقولي. فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الحديث. وهذا نص في أن المبتلى به عاصم من جهة: أنه امتحن بوقوع ذلك برجل من قومه، فعظم عليه ذلك، وشق عليه، حتى تكلف سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن تلك المسألة القبيحة، ورأى أن ذلك كالعقوبة له؛ لما تكلم في اللعان قبل وقوعه، والله تعالى أعلم.

                                                                                              وأما ابتلاء السائل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فإنما هو: وجوده الرجل مع أهله، فهو ابتلاء آخر غير ابتلاء عاصم .

                                                                                              و (قوله: ووعظه، وذكره ) هذا الوعظ، والتذكير كان منه صلى الله عليه وسلم قبل اللعان. [ ص: 296 ] وينبغي أن يتخذ سنة في وعظ المتلاعنين قبل الشروع في اللعان. ولذلك قال الطبري : إنه يجب على الإمام أن يعظ كل من يحلفه، وذهب الشافعي إلى أنه يعظ كل واحد بعد تمام الرابعة وقبل الخامسة؛ تمسكا منه بما في البخاري من حديث ابن عباس في لعان هلال بن أمية ؛ أنه صلى الله عليه وسلم وعظها عند الخامسة.

                                                                                              و (قوله: فبدأ بالرجل ) إنما بدأ به لأنه القاذف، فيدرأ الحد عن نفسه، ولأنه هو الذي بدأ الله تعالى به. فإذا فرغ من أيمانه تعين عليها: أن تقابل أيمانه بأيمانها النافية لما أثبته عليها، أو الحد. وهذا مما أجمع عليه العلماء.

                                                                                              و (قوله: فشهد أربع شهادات ) أي: حلف أربع أيمان. وهذا معنى قوله تعالى: فشهادة أحدهم أربع شهادات [النور: 6] أي: يحلف أربع أيمان. والعرب تقول: أشهد بالله؛ أي: أحلف. وكما قال شاعرهم:


                                                                                              فأشهد عند الله أني أحبها فهذا لها عندي فما عندها ليا؟



                                                                                              وهذا مذهب الجمهور. وقال أبو حنيفة : هي شهادات محققة من المتلاعنين على أنفسهما.

                                                                                              وانبنى على هذا الخلاف في لعان الفاسقين والعبدين. فعند الجمهور يصح، وعند أبي حنيفة لا يصح. وربما استدل لأبي حنيفة بما رواه [ ص: 297 ] أبو عمرو من حديث عمرو بن شعيب مرفوعا: (لا لعان بين مملوكين ولا كافرين). وبما رواه الدارقطني من هذا المعنى، ولا يصح منها كلها شيء عند المحدثين.

                                                                                              واختلفوا في الألفاظ التي يقولها المتلاعنان. وأولى ذلك كله ما دل عليه كتاب الله تعالى. وهو: أن يقول الرجل: أشهد بالله لقد زنيت. أو: لقد رأيتها تزني، أو: أن هذا الحمل ليس مني، أو: هذا الولد - أربع مرات - ثم يخمس فيقول: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين. ثم تقوم هي فتقول: أشهد بالله لقد كذب علي فيما رماني به. أو: إن هذا الحمل منه، أو: هذا الولد ولده، ثم تخمس بأن تقول: غضب الله عليها إن كان من الصادقين. وقد زاد بعض علمائنا في اليمين: بالله الذي لا إله إلا هو. ومشهور مذهبنا: أنه إن لاعنها على رؤية الزنا: نص على ذلك، كما ينصه شهود الزنا، فيقول: كالمرود في المكحلة. وكل ذلك منهما وهما قائمان.

                                                                                              و (قوله: ثم فرق بينهما ) دليل لمالك ولمن قال بقوله: على أن الفرقة تقع بنفس فراغهما من التعانهما. وقد ذكرنا الخلاف في ذلك.

                                                                                              [ ص: 298 ] و (قوله في حديث ابن عمر : ( أحدكما كاذب ) ظاهره أنه بعد الملاعنة، وحينئذ يحقق الكذب عليهما جميعا. وقال بعضهم: إنما قاله صلى الله عليه وسلم قبل اللعان تحذيرا لهما، ووعظا. ورجح بعضهم الأول.

                                                                                              و (قوله: لا سبيل لك عليها ) دليل لمالك ولمن قال بقوله في تأبيد التحريم، فإن ظاهره النفي العام. وقد ذكر الدارقطني زيادة في حديث سهل بعد قوله: (ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما) وقال: (لا يجتمعان أبدا). وقال أبو داود عن سهل : (مضت سنة المتلاعنين: أن يفرق بينهما، ثم لا يجتمعان أبدا). قال مالك : وهي السنة التي لا اختلاف فيها عندنا.




                                                                                              الخدمات العلمية