الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          بعد بيان نعمته على عباده في الليل والنهار؛ وبيان أن النفوس تستروح الراحة في الليل؛ وتنهض للعمل في النهار لطلب الرزق؛ بين - سبحانه - أنه يرزق الناس بما يكون مادة عملهم؛ وفيه معاشهم؛ فقال الحكيم العليم الخلاق العظيم: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنـزلنا من السماء ماء طهورا لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا ؛ الضمير لله - جل جلاله - الذي أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة؛ و أرسل الرياح أطلقها؛ كأنها مقيدة بإرادته - سبحانه - ثم أرسلها؛ و " الرياح " ؛ جمع " ريح " ؛ وهي تتلاقى في استقامتها مع الراحة؛ كما تتلاقى في وقائعها مع الراحة أيضا؛ وإن كانت المعاني ليست واحدة؛ أطلقها - سبحانه وتعالى - لتكون مبشرة للناس بنزول الماء الطهور؛ ولذا قال (تعالى): بشرا بين يدي رحمته ؛ و " بشرا " ؛ مخففة من " بشرا " ؛ بضم [ ص: 5292 ] الاثنين؛ جمع " بشور " ؛ أي: مبشر؛ والمعنى على ذلك: مبشرات برحمته؛ وهو إنزال الماء الطهور؛ الذي يطهر من الأرجاس؛ ويسقي الزرع والغرس والحيوان؛ والإنسان؛ ويصح أن تكون جمعا لـ " بشرى " ؛ وهي في نظرنا أظهر؛ والمؤدى واحد؛ وهو أنها مبشرات؛ وقد تكون الرياح عواصف جدباء؛ وليست هذه التي تكون بشرا؛ بل إنه يكون نذيرا من النذر؛ كما وقع لعاد قوم هود؛ ولثمود قوم صالح؛ وقوله (تعالى): بين يدي رحمته ؛ أي أنها مقدمة لرحمته؛ تليها الرحمة الإلهية لخلقه؛ وفي هذا الكلام تشبيه حسن باستعارة تمثيلية؛ فقد شبهت الرياح الممطرة غيثا بمن يسير وأمامه في سيره رحمة مباركة طيبة؛ ورشحت وقويت الاستعارة بقوله: " بشرا " ؛ فإنها تقوي معنى المشبه به؛ والاستعارة إذا كانت مقواة بما يكون فيه معنى المشبه به كانت مرشحة؛ أي: مقواة؛ وقول: " بشرا " ؛ قرئت بالنون؛ أي: " نشرا " ؛ جمع " نشور " ؛ كما جمع " رسل " ؛ من " رسول " ؛ والمعنى أنها تنتشر وتعم لتعم الرحمة؛ ونذهب إلى أن القراءتين المتلاقيتين في المعنى نجمع بينهما؛ فيكون المعنى أن الرياح فيها وصفان؛ أحدهما أنها مبشرة بالخير؛ والثاني أنها منتشرة وعامة؛ ويكون المؤدى أن كل قراءة آية قائمة بذاتها؛ وهي قراءة؛ والجمع بينهما يكون الجمع بين آيتين؛ في أوجز لفظ؛ وبالجمع تكون الرياح مبشرات ومنتشرات؛ والله هو الرزاق ذو القوة المتين.

                                                          وقال (تعالى): وأنـزلنا من السماء ماء طهورا ؛ و " السماء " ؛ هنا: جهة العلو؛ أنزلنا من السحاب؛ الذي حملته الرياح المبشرة المنتشرة ماء طهورا؛ و " الطهور " ؛ هو الطاهر في نفسه؛ المطهر لغيره؛ وإن أطهر الماء هو ماء المطر; لأنه فوق خلوه من الأنجاس الحسية والقاذورات؛ هو خال خلوا تاما من جراثيم الأمراض الوبائية وغيرها؛ ووصفه بـ " طهورا " ؛ ينبئ عن ذلك؛ وإنه ينزل كذلك؛ ثم يكون تلوثه بجراثيم الأمراض بعد ذلك؛ بمكوثه في الأرض؛ واستقراره بها؛ وإنه في الشريعة يطهر الإنسان طهارة حسية بإزالة الأنجاس الحسية؛ وطهارة [ ص: 5293 ] معنوية بالاغتسال والوضوء؛ وإنعاش الأجسام بالاستحمام؛ والاستراحة من وعثاء الأعمال؛ وكل هذه نعم تعم البر؛ والفاجر.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية