الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح، وجرأ عليه بالوعد بالإغناء، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح، وقدم الكلام فيه ترغيبا للإنسان في التوكل والإحصان، وكان قبله ما قد يتعذر لأجله إما بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه، أو بعدم رضى العبد وغيره بكون ولده رقيقا أو غير ذلك، أتبعه قوله حاثا على قمع النفس الأمارة عند العجز: وليستعفف أي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام الذين لا يجدون نكاحا أي قدرة عليه وباعثا إليه حتى يغنيهم الله أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال من فضله في ذلك الذي [ ص: 268 ] تعذر عليهم النكاح بسببه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية، ونفس أبية، أتبعه قوله: والذين يبتغون أي يطلبون طلبا عازما الكتاب أي المكاتبة مما ملكت أيمانكم ذكرا كان أو أنثى; وعبر ب "ما" إشارة إلى ما في الرقيق من النقص فكاتبوهم أي ندبا لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجما، فإذا أدوه عتقوا إن علمتم فيهم خيرا أي تصرفا صالحا في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم; قال ابن كثير : وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلا على الناس" انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك وآتوهم وجوبا إذا أدوا إليكم من مال الله أي الذي عم كل شيء بنعمته، لأنه الملك العظيم الذي آتاكم ولو بحط شيء من مال الكتابة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس، وتارة [ ص: 269 ] بالمال، نهاهم عما ينافيه فقال: ولا تكرهوا فتياتكم أي إماءكم، ولعله عبر بلفظ الفتوة هزا لهم إلى معالي الأخلاق، وتخجيلا من طلب الفتوة من أمة على البغاء أي الزنى لتأخذوا منهن مما يأخذنه من ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة، وكان ذلك نادرا من أمة، قال: إن بأداة الشك أردن تحصنا وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقا يتعففن عنه مع أنهن مجبولات على حبه، فكيف إذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء، فكيف إذا أذن لهن فيه. فكيف إذا ألجئن إليه، وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة، وزاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله: لتبتغوا أي تطلبوا طلبا حثيثا فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش عرض الحياة الدنيا فإن العرض متحقق فيه الزوال، والدنيا مشتقة من الدناءة.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما نهى سبحانه عن الإكراه، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة [ ص: 270 ] فيه فقال: ومن يكرهن دون أن يقول: وإن أكرهن، وعبر بالمضارع إعلاما بأنه يقبل التوبة ممن خالف بعد نزول الآية، وعبر بالاسم العلم في قوله: فإن الله إعلاما بأن الجلال غير مؤيس من الرحمة، ولعله عبر بلفظ "بعد" إشارة إلى العفو عن الميل إلى ذلك الفعل عند مواقعته إن رجعت إلى الكراهة بعده، فإن النفس لا تملك بغضه حينئذ، فقال: من بعد إكراههن غفور أي لهن وللموالي، يستر ذلك الذنب إن تابوا رحيم بالتوفيق للصنفين إلى ما يرضيه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية