الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                [ ص: 488 ] الباب الأول في أسباب الوجوب والطرق .

                                                                                                                أما الأسباب فستة : النذر ، وقتل الخطأ ، والظهار ، والحنث ، واختلال النسك - وستأتي ، وظهور الهلال .

                                                                                                                وأما الطرق المثبتة للهلال ، قال صاحب التلخيص : هي ستة : رؤية الإنسان لنفسه ، والرؤية العامة والخاصة عند الحاكم ، وخبر الواحد في موضع ليس فيه إمام أو فيه لكن لا يعنى بأمور الناس ، أو تنقل إلى بلد عما ثبت في بلد آخر على المشهور .

                                                                                                                فروع سبعة :

                                                                                                                الأول : في الكتاب : لا تقبل شهادة الواحد ويصوم وحده ، فإن أفطر فعليه الكفارة ، ويجب أن يعلم الإمام لعل غيره يوافقه . قال سند : إلا أن يكون عبدا أو فاسقا أو امرأة أو مجهولا لانعدام الفائدة ، وفي الجواهر قيل : يرفعه وإن كان لا يرجى قبول شهادته رجاء الاستفاضة ، ويثبت بشهادة عدلين ، ومنع سحنون إن كانت السماء مصحية والمصر كبير ، ولا يثبت شوال إلا باثنين ، ونقل صاحب التلخيص ثبوته بالواحد ، وقال ( ش ) وابن حنبل : يثبت رمضان بالواحد ، وخصصه ( ح ) بالغيم ، قال اللخمي : جوز ابن الماجشون الصوم والفطر [ ص: 489 ] بخبر الواحد عن رؤية نفسه أو رؤية غيره ; لقوله : " إن بلالا يؤذن بليل ; فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم " . فأجاز الصوم بخبر الواحد ، وقال أبو الحسن : وعلى هذا يجوز الفطر آخر النهار بخبر الواحد .

                                                                                                                فإن قيل : المؤذن كالوكيل للناس يخبرهم ، قلنا : يلزم إذا وكلوا من يترصد لهم الهلال أن يقبل وحده ، وفي أبي داود : قال ابن عمر : تراءى الناس الهلال ، فأخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه .

                                                                                                                جوابه : ليس فيه ما يمنع تقدم شهادة غيره فجاز تقدمه ، ويعضده ما في الصحيحين : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين ، وإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا " ، وقياسا على شوال ، وأما المؤذن فإنما قبل قوله في تعيين أول النهار ، وإلا فالصوم معلوم الوجوب لا بد منه ، بخلاف اليوم الأول : فإن الصوم منوط بالشاهد ، قال سند : فلو حكم الإمام بالصوم بالواحد لم يخالف - وفيه نظر ; لأنه فتوى لا حكم .

                                                                                                                تمهيد :

                                                                                                                الأحكام على ثلاثة أقسام : منها ما لا يثبت إلا بالشهادة كوجوب تنفيذ الدعاوى عند الحكام ، وما يكفي فيه الواحد كالفتاوى من المجتهدين ، وما اختلف في لحوقه بأحدهما كمخبر المصلي بعدد الركعات ، ورمضان ، وغيرهما ، فما حكم الأول والثاني حتى يظهر الصواب في إلحاق الثالث بأيهما ؟

                                                                                                                قال المازري في شرح البرهان : الحقوق منها عام في الأشخاص والأزمان كالفتيا فيقبل فيه الواحد لعدم التهمة في معاداة جملة الأئمة ، وخاص لمعين كالدعوى عند الحاكم فيشترط العدد لدفع التهمة بعداوة الشاهد باطنا ، ورمضان [ ص: 490 ] لا يعم الأزمان وإن عم البلدان فاجتمع فيه الشبهان ، فوقع الخلاف في أيهما يغلب ، وقوي انتفاء التهمة بمشاركة الشاهد في الحكم ، وكذلك ضعفت التهمة في الصلاة لعدم تصور المصلي لكونه ساعيا في قربة ، فأشبه الفتوى في عدم التهمة .

                                                                                                                الثاني في الجلاب : إذا ثبت رمضان في بلد من البلدان ; لزم الصوم لكل بلد نقل إليهم . وقال عبد الملك : إن كان ثبوته بالاستفاضة حتى لا يكون من باب الحكم وإلا فلا يلزم ، إلا أن يكون ثبوته عند الإمام لعموم حكمه ، وفي أبي داود عن كريب : أن ابن عباس سأله لما قدم من الشام عن هلال رمضان : متى رأيتم الهلال ؟ قال : قلت : رأيته يوم الجمعة . قال : أنت رأيته . قلت : نعم ، ورآه الناس وصاموا وصام معاوية . قال ابن عباس : لكنا رأيناه ليلة السبت فلا نزال نصومه حتى نكمل الثلاثين أو نراه . فقلت له : أفلا نكتفي برؤية معاوية ؟ فقال : لا ، هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأجاب : المشهور عن هذا أن المدينة كانت مصحية ولم ير فيها ، فقدمت المشاهدة على الخبر : خبر كريب ، ويكون ذلك معنى قوله : هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا نرجع عن اليقين إلى الظن ، مع أن المشهور لا فرق بين أن يرصد مع الصحو أم لا ، بل قضي بالثبوت مطلقا فيشكل الحديث .

                                                                                                                ( قاعدة ) :

                                                                                                                نصب الله تعالى الأوقات أسبابا للأحكام كالفجر والزوال ورؤية الهلال ، كما نصب الأفعال أسبابا نحو السرقة والزنا ، والأوقات تختلف بحسب الأقطار ، فما من زوال لقوم إلا وهو فجر لقوم ، وعصر لقوم ، ومغرب لقوم ونصف الليل لقوم ، بل كلما تحركت الشمس درجة ، فتلك الدرجة بعينها هي فجر وطلوع شمس وزوال وغروب ونصف ليل ونصف نهار وسائر أسماء الزمان ينسب إليها بحسب أقطار مختلفة ، وخاطب الله تعالى كل قوم بما يتحقق في قطرهم لا في قطر غيرهم ، [ ص: 491 ] فلا يخاطب أحد بزوال غير بلده ولا بفجره ، وهذا مجمع عليه ، وكذلك الهلال مطالعه مختلفة فيظهر في المغرب ولا يظهر في المشرق إلا في الليلة الثانية بحسب احتباسه في الشعاع ، وهذا معلوم بالضرورة لمن ينظر فيه ، ومقتضى القاعدة أن يخاطب كل أحد بهلال قطره ، ولا يلزمه حكم غيره ولو ثبت بالطرق القاطعة ، كما لا يلزمنا الصبح وإن قطعنا بأن الفجر قد طلع على من شرق عنا كما قاله ( ح ) . إلى هذا أشار البخاري في هذا الحديث بقوله : بأن لأهل كل بلد رؤيتهم ، ولو كان ذلك لم ينقل عن عمر بن الخطاب ، ولا غيره من الخلفاء : أنه كان يكتب إلى الأقطار ، ويبعث البريد : إني قد رأيت الهلال فصوموا ، بل كانوا يتركون الناس مع مرئيهم فيصير حدا مجمعا عليه ، ويشكل على هذا المشهور ، وقول عبد الملك أيضا في قصره اللزوم على محل الولاية في الحكم دون الاستفاضة ، ( وكذلك ) إذا ثبت عند الإمام الأعظم وحكم به بالشاهدين - إن حكم به على أهل قطره لا يتعداهم ، أو على غيرهم فينبغي ألا ينفذ حكمه ; لأنه حكم بغير سبب ، وكل حكم بغير سبب لا يلزم ولا ينفذ .

                                                                                                                الثالث : في الكتاب : لا يقبل في ذي الحجة إلا عدلان ، قال سند : إن رأى شوالا واحد قال مالك : لا يفطر سدا لذريعة المتهاونين . وقال عبد الملك : في الفطر بقلبه ، وقال ابن القاسم : يأكل بحيث لا يرى ، وقال أشهب : إن ظهر عليه في . . . . . . ولم يذكره قبل ذلك عوقب إن اتهم . وقال ابن حنبل : لا يفطر لعدم ثبوته واحتياطا للصوم . لنا قوله صلى الله عليه وسلم : " وأفطروا لرؤيته " - وقد رئي ، قال أبو الطاهر : إن لم يخف . . . . . . . اتفاقا ، وإن كان مسافرا أو له عذر فالمذهب الفطر ; [ ص: 492 ] وإن لم يكن له عذر وأمن من الاطلاع ، فالمشهور : لا يفطر سدا لذريعة المتهاونين . . . . . . . الفطر . . . . . . لوجود السبب ; فإن شهد على رمضان شاهدان ، ولم . . . . . مع الصحو فكمال العدة ، قال مالك : يكمل عدة شعبان خلافا ل ( ش ) . . . لو شهد واحد برمضان وآخر بشوال ، قال يحيى بن عمر : لا يفطر بشهادتهما لوجوب إكمال شعبان ورمضان بالبينة . قال أبو الطاهر : إن كانت شهادة الثاني بعد تسعة وعشرين من شهادة الأول لا تلفق لعدم اجتماعهما ، أو بعد ثلاثين جرى تلفيقهما على الخلاف في تلفيق الشهادة على الأفعال .

                                                                                                                الرابع : في الجلاب : لو رئي الهلال بعد الزوال فلليلة المستقبلة اتفاقا ، أو قبله فللمستقبلة عند مالك و ( ح ) و ( ش ) ، وللماضية عند ابن حبيب ، ووافق ابن حنبل في أول رمضان وخالف في آخره احتياطا للصوم . لنا أن في الحديث المتقدم رواية زيد فيها بعد : وأفطروا لرؤيته فإنه يتم الهلال أول النهار فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس . . . . سبب عدم رؤيته حصوله في شعاع الشمس ، فربما تخلص منه في العصر فهو الهلال الصغير ، وربما تخلص في الظهر أو قبله وهو الهلال الكبير ; فإنه كلما بعد زمان التخلص نقص الهلال من الشمس ، ولما كانت الأهلة تكبر وتصغر ويختلف زمان خروجها من الشعاع ، ترجح البقاء على ما تقدم من صوم أو فطر عملا بالأصل ، ولما كان الغالب تخلصه لليلة الآتية بعد الزوال ; كانت رؤيته متخلصة قبله ليشعر تخليصه من الليلة الماضية ، لا سيما أنه بعيد من الشمس جدا ، فهذا سبب الخلاف . . . قبل الزوال وبعده .

                                                                                                                الخامس : في الجلاب : إذا أشهد عليه وجب الكف والقضاء ، وعلى شوال وجب الفطر والصلاة ; فإن كان بعد الزوال فلا يصلوا .

                                                                                                                السادس : قال سند : لو توالى الغيم شهورا ، قال مالك : يكملون عدة الجميع حتى يظهر خلافه اتباعا للحديث ويقضون إن تيقن لهم خلاف . . . . [ ص: 493 ] إثبات الهلال بالحساب خلافا للداودي وبعض الشافعية . . . . وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - : " فإن غم عليكم فاقدروا له " ، فليس المراد تقدير سير القمر في المنازل ; لقوله في مسلم : " فاقدروا له ثلاثين " ، والمطلق يحمل على المقيد ، ولأن معناه : اقدروا له قدره أي مقداره وهو ثلاثون ; لذلك لا يجيء شهر تسعة وعشرين إلا ناقصا .

                                                                                                                فائدة : غم معناه خفي بغيم أو غيره ، ومنه الغيم لإخفائه السماء ، والغم ; لأنه ساتر للقلب ، والأغم مستور الجبهة .

                                                                                                                لا أعلم خلافا في إثبات أوقات الصلاة بالحساب في الآلات بالماء والرمل وغيرهما ، وعلى ذلك أهل الأمصار في سائر الأعصار زمن الشتاء عند الأمطار والغيوم ، فما الفرق ؟

                                                                                                                جوابه : أن للإثبات أسبابا منصوبة ، فإن علم السبب لزمه حكمه من غير شرع يتوقف عليه ، بل يكفي الحس والعقل ، وحصول الهلال خارج الشعاع ليس بسبب ، بل ظهوره للحس ، فمن تسبب له بغير البصر معتمدا على الحساب لم يوجد في حقه السبب فلا يرتب عليه حكم ، ويدل على ذلك قوله تعالى في الصلاة : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس ) . وما قال : صوموا للهلال ، بل قال ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) . فجعل السبب المشاهدة له دونه ، قال سند : فلو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به لم يتبع لإجماع السلف على خلافه .

                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                الخدمات العلمية