الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم استئناف بياني أن قوله تعالى : وما جعل أدعياءكم أبناءكم وقوله ادعوهم لآبائهم كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوة زيد بن حارثة للنبيء - صلى الله عليه وسلم - فكان بحيث يثير سؤالا في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم - صلى الله عليه وسلم - وهل هي وعلقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبيء وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم .

والمعنى : أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين .

و " من " تفضيلية .

ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله تعلم ما في نفسي ، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس ، أي أن النبيء أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن ، أي هو أشد ولاية ، أي قربا لكل مؤمن من قرب نفسه إليه ، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة .

فـ " أولى " اسم تفضيل من الولي وهو القرب ، أي أشد قربا .

وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلقه بباء المصاحبة والملابسة . والكلام على تقدير مضاف ، أي أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين ، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شئون المؤمنين الصالحة .

[ ص: 267 ] والأنفس : الذوات ، أي هو أحق بالتصرف في شئونهم من أنفسهم في تصرفهم في شئونهم .

ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبيء - صلى الله عليه وسلم - : لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي ، فقال له النبيء - صلى الله عليه وسلم - : " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " . فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحب إلي من نفسي .

ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس .

والمعنى : أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض ، أي من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى : ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ، أي يقتل بعضكم بعضا ، وقوله : ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما .

والوجه الأول أقوى وأعم في اعتبار حرمة النبيء - صلى الله عليه وسلم - وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب ، وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدون ، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادئ الأمر نفسه فقال : لأنت أحب إلي إلا من نفسي التي بين جنبي .

وعلى كلا الوجهين فالنبيء عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم ، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه . وسننبه عليه عند قوله تعالى : وأزواجه أمهاتهم فكانت ولاية النبيء - صلى الله عليه وسلم - بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين .

وفي الحديث : ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : ( النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم ) ، ولما علمت من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض ، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته ، وقد [ ص: 268 ] بينه قول النبيء - صلى الله عليه - : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه ورثته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه .

وهذا ملاك معنى هذه الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية