الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا لولوا إليه وهم يجمحون ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما بين كونهم مستجمعين لكل مضار الآخرة والدنيا ، خائبين عن جميع منافع الآخرة والدنيا ، عاد إلى ذكر قبائحهم وفضائحهم ، وبين إقدامهم على الأيمان الكاذبة ، فقال :( ويحلفون بالله ) أي : المنافقون للمؤمنين إذا جالسوهم( إنهم لمنكم ) أي : على دينكم .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى :( وما هم منكم ) أي : ليسوا على دينكم( ولكنهم قوم يفرقون ) القتل ، فأظهروا الإيمان وأسروا النفاق ، وهو كقوله تعالى :( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) [ البقرة : 14 ] . والفرق : الخوف ، ومنه يقال : رجل فروق ، وهو الشديد الخوف ، ومنها أنهم لو وجدوا مفرا يتحصنون فيه آمنين على أنفسهم منكم لفروا إليه ولفارقوكم ، فلا تظنوا أن موافقتهم إياكم في الدار والمسكن عن القلب ، فقوله :( لو يجدون ملجأ ) . الملجأ : المكان الذي يتحصن فيه ، ومثله اللجأ مقصورا مهموزا ، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ ، لجأ بفتح اللام وسكون الجيم ، ومثله التجأ وألجأته إلى كذا ، أي : جعلته مضطرا إليه . وقوله :( أو مغارات ) . هي جمع مغارة ، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه ، أي يستتر . قال أبو عبيد : كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك ، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله :( مدخلا ) قال الزجاج : أصله مدتخل ، والتاء بعد الدال تبدل دالا ؛ لأن التاء مهموسة ، والدال مجهورة ، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول ، كالمتلج من الولوج . ومعناه : المسلك الذي يستتر بالدخول فيه . قال الكلبي وابن زيد : نفقا كنفق اليربوع . والمعنى : أنهم لو وجدوا مكانا على أحد هذه الوجوه الثلاثة ، مع أنها شر الأمكنة( لولوا إليه ) أي : رجعوا إليه . يقال : ولى بنفسه إذا انصرف ، وولى غيره إذا صرفه . وقوله :( وهم يجمحون ) أي : يسرعون إسراعا لا يرد وجوههم شيء ، ومن هذا يقال : جمح الفرس ، وهو فرس جموح ، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام ، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن [ ص: 78 ] المسلمين صاروا بهذه الحالة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء ، وهي : الملجأ ، والمغارات ، والمدخل ، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه ، فالملجأ : يحتمل الحصون ، والمغارات : الكهوف في الجبال ، والمدخل : السرب تحت الأرض ، نحو الآبار . قال صاحب الكشاف : قرئ : " مدخلا " من دخل و " مدخلا " من أدخل ، وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم ، وقرأ أبي بن كعب : " متدخلا " ، وقرأ : لوألوا إليه " أي : لالتجأوا ، وقرأ أنس : " يجمزون " ، فسئل عنه فقال : يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية