الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              40 [ ص: 88 ] (باب منه) وأورده النووي في الباب السابق

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص 224 -226 ج 1 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي هريرة ، أو عن أبي سعيد شك الأعمش ، قال: لما كان غزوة تبوك ، أصاب الناس مجاعة. قالوا: يا رسول الله ! لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: افعلوا . قال فجاء عمر فقال: يا رسول الله ! إن فعلت قل الظهر ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ثم ادع الله لهم عليها بالبركة، لعل الله أن يجعل في ذلك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: فدعا بنطع فبسطه، ثم دعا بفضل أزوادهم . قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة ، قال: ويجيء الآخر بكف تمر . قال: ويجيء الآخر بكسرة ، حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير قال فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم . قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه . قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت فضلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله . لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيحجب عن الجنة ] .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              عن أبي هريرة، أو عن أبي سعيد «شك الأعمش» إسناد هذا الحديث مما استدركه الدارقطني وعلله. قال ابن الصلاح: هذا الاستدراك مع [ ص: 89 ] أكثر استدراكاته على البخاري ومسلم قدح في أسانيدهما، غير مخرج لمتون الأحاديث من حيز الصحة، وأما شك «الأعمش» فهو غير قادح في متن الحديث، فإنه شك في عين الصحابي الراوي له، والصحابة كلهم عدول انتهى.

                                                                                                                              وأجاب النووي عن هذا الاستدراك والاستدراك الآخر بقوله: هذان الاستدراكان لا يستقيم واحد منهما. ثم ذكر وجه ذلك، فراجعه.

                                                                                                                              (قال: لما كان يوم غزوة تبوك ) المراد باليوم هنا: الوقت والزمان لا اليوم المعروف. وليس في كثير من الأصول أو أكثرها ذكر اليوم هنا، وأما «الغزوة» ، فيقال فيها أيضا: «الغزاة» . وأما «تبوك» فهي من أدنى أرض الشام، (أصاب الناس مجاعة ) ، بفتح الميم. وهو «الجوع الشديد» . فقالوا: (يا رسول الله! لو أذنت لنا ) . هذا من أحسن آداب خطاب الكبار، والسؤال منهم. وهذا أجمل من قولهم لكبير «افعل كذا» بصيغة الأمر (فنحرنا نواضحنا ) ، وهي «الإبل، التي يستقى عليها.

                                                                                                                              قال: أبو عبيد: الذكر منها «ناضح» ، والأنثى «ناضحة» .

                                                                                                                              وفيه أنه لا ينبغي لأهل العسكر من الغزاة أن يضعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة، أو خاف مفسدة ظاهرة، والله أعلم. (فأكلنا وادهنا ) ،؟ قال صاحب «التحرير» : ليس مقصوده ما هو المعروف من الادهان؛ وإنما معناه اتخذنا «دهنا» من شحومها. «فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «افعلوا» .قال: [ ص: 90 ] فجاء «عمر، فقال: يا رسول الله! إن فعلت قل الظهر.

                                                                                                                              «فيه» جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء، وأن للمفضول أن يشير عليهم بإبطال ما أمروا بفعله إذا ظهرت مصلحة عنده؛ والمراد «بالظهر» هنا الدواب سميت «ظهرا» ، لكونها يركب على ظهرها، أو لكونها تظهر بها، ويستعان على السفر. (ولكن ادعهم بفضل أزوادهم ) .

                                                                                                                              ثم ادع الله لهم عليها بالبركة- لعل الله تعالى أن يجعل في ذلك، أي: بركة أو خيرا ونحو ذلك. حذف المفعول به لأنه فضلة، وأصل «البركة» كثرة الخير وثبوته، وتبارك الله ثبت الخير عنده، وقيل غير ذلك (فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نعم» . فدعا بنطع ) ، فيه أربع لغات؛ أشهرها «كسر النون مع فتح الطاء» ، فبسطه ثم دعا بفضل أزوادهم.

                                                                                                                              قال: فجعل الرجل يجيء بكف ذرة، قال: ويجيء الآخر بكف تمر. قال: ويجيء الآخر بكسرة حتى اجتمع على النطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبركة. ثم قال لهم: «خذوا في أوعيتكم» . قال: فأخذوا في أوعيتهم حتى ما تركوا في العسكر وعاء إلا ملئوه. قال: فأكلوا حتى شبعوا وفضلت -فضلة- ) يقال «فضل» بكسر الضاد «وفتحها» لغتان مشهورتان.

                                                                                                                              وفي «الحديث» بيان معجزة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي علم من أعلام النبوة.

                                                                                                                              فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» . لا يلقى الله بهما عبد «غير شاك» فيحجب عن الجنة.

                                                                                                                              [ ص: 91 ] هذا موضع الترجمة للباب. وقد جمع القاضي عياض في هذه المسألة كلاما حسنا، جمع فيه نفائس. «حاصله» : أن الناس اختلفوا فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين؛ فقالت «المرجئة» لا تضره المعصية مع الإيمان. وقالت «الخوارج» : تضره ويكفر بها. وقالت «المعتزلة» : يخلد في النار، إذا كانت معصية كبيرة، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر، ولكن يوصف بأنه فاسق. وقالت «الأشعرية» : بل هو مؤمن وإن لم يغفر له، وعذب، فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة.

                                                                                                                              قال: وهذا الحديث يعني: قوله صلى الله عليه وسلم: «من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة» . حجة على «الخوارج» ، والمعتزلة، وأما «المرجئة» ؛ فإن احتجت بظاهره قلنا: محمله على أنه غفر له، أو أخرج من النار بالشفاعة ثم أدخل الجنة؛ فيكون معنى قوله «دخل الجنة» أي: دخلها بعد مجازاته بالعذاب. وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة؛ فلا بد من تأويل هذا، لئلا تتناقض نصوص الشريعة.

                                                                                                                              وفي قوله صلى الله عليه وسلم «يعلم» إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة: أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة، وإن لم يعتقد ذلك بقلبه؛ وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم «غير شاك فيهما» ، وهذا يؤكد ما قلناه.

                                                                                                                              قال عياض: وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم؛ ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون [ ص: 92 ] الأخرى؛ إلا لمن لم يقدر على «الشهادتين» لآفة بلسانه، أو لم تمهله المدة ليقولها، بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ؛ إذ قد ورد مفسرا بالحديث الآخر «من قال: لا إله إلا الله، ومن شهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله» وقد جاء هذا الحديث، وأمثاله «أحاديث» كثيرة، في ألفاظها اختلاف، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف؛ في هذا اللفظ ؛ في هذا الحديث.

                                                                                                                              وفي رواية معاذ عنه صلى الله عليه وسلم «من كان آخر كلامه: لا إله إلا الله دخل الجنة، وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: «من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة» ، وعنه صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار» ونحوه في حديث عبادة بن الصامت، وعتبان بن مالك. وزاد في حديث عبادة. «على ما كان من عمل» وفي حديث أبي هريرة «لا يلقى الله بهما عبد «غير شاك فيهما» ، إلا دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق» وفي حديث أنس «حرم الله على النار من قال: (لا إله إلا الله) يبتغي بذلك وجه الله تعالى.

                                                                                                                              وهذه الأحاديث كلها سردها «مسلم» في كتابه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية