الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      فلما فصل طالوت بالجنود أي: انفصل عن بيت المقدس مصاحبا لهم لقتال العمالقة، وأصله فصل نفسه عنه، ولما اتحد فاعله ومفعوله شاع استعماله محذوف المفعول حتى نزل منزلة القاصر كانفصل، وقيل: فصل فصولا، وجوز كونه أصلا برأسه، ممتازا من المتعدي بمصدره؛ كوقف وقوفا، ووقفه وقفا، وصد عنه صدودا، أو صده صدا، وهو باب مشهور، والجنود: الأعوان والأنصار، جمع جند، وفيه معنى الجمع، وروي أنه قال لقومه: لا يخرج معي رجل بنى بناء لم يفرغ منه، ولا تاجر مشتغل بالتجارة، ولا متزوج بامرأة لم يبن عليها، ولا أبتغي إلا الشاب النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممن اختاره ثمانون ألفا، وقيل: سبعون ألفا، وكان الوقت قيظا، فسلكوا مفازة فسألوا نهرا قال إن الله مبتليكم أي: معاملكم معاملة من يريد أن يختبركم؛ ليظهر للعيان الصادق منكم والكاذب بنهر بفتح الهاء، وقرئ بسكونها وهي لغة فيه، وكان ذلك نهر فلسطين، كما روي عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ وعن قتادة، والربيع: أنه نهر بين فلسطين والأردن فمن شرب منه أي: ابتدأ شربه لمزيد عطشه من نفس النهر؛ بأن كرع لأنه الشرب منه حقيقة، وهذا كثيرا ما يفعله العطشان المشرف على الهلاك، وقيل: الكلام على حذف مضاف؛ أي: فمن شرب من مائه مطلقا فليس مني أي: من أشياعي، أو ليس بمتصل بي، ومتحد معي، فمن اتصالية وهي غير التبعيضية عند بعض، وكأنها بيانية عنده ، وعينها عند آخرين [ ص: 170 ] ومن لم يطعمه فإنه مني أي: من لم يذقه؛ من طعم الشيء: إذا ذاقه مأكولا كان أو مشروبا، حكاه الأزهري، عن الليث، وذكر الجوهري أن الطعم ما يؤديه الذوق، وليس هو نفس الذوق، فمن فسره به على هذا؛ فقد توسع، وعلى التقديرين استعمال طعم الماء بمعنى ذاق طعمه مستفيض لا يعاب استعماله لدى العرب العرباء، ويشهد له قوله: وإن شئت حرمت النساء سواكم وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا وأما استعماله بمعنى شربه واتخذه طعاما فقبيح، إلا أن يقتضيه المقام، كما في حديث زمزم:" طعام طعم وشفاء سقم" فإنه تنبيه على أنها تغذي بخلاف سائر المياه، ولا يخدش هذا ما حكي أن خالد بن عبد الله القسري قال على منبر الكوفة وقد خرج عليه المغيرة بن سعيد: أطعموني ماء، فعابت عليه العرب ذلك وهجوه به وحملوه على شدة جزعه، وقيل فيه:

                                                                                                                                                                                                                                      بل المنابر من خوف ومن وهل واستطعم الماء لما جد في الهرب     وألحن الناس كل الناس قاطبة
                                                                                                                                                                                                                                      وكان يولع بالتشديق بالخطب

                                                                                                                                                                                                                                      لأن ذلك إنما عيب عليه؛ لأنه صدر عن جزع، فكان مظنة الوهم وعدم قصد المعنى الصحيح، وإلا فوقوع مثله في كلامهم مما لا ينبغي أن يشك فيه، وإنما علم طالوت أن من شرب عصاه، ومن لم يطعم أطاعه، بواسطة الوحي إلى نبي بني إسرائيل، وإنما لم يخبرهم النبي نفسه بتلك، بل ألقاه إلى طالوت فأخبر به، كأنه من تلقاء نفسه؛ ليكون له وقع في قلوبهم، وجوز أن يكون ذلك بواسطة وحي إليه، بناء على أنه نبئ بعد أن ملك، وهو قول لا ثبت له، والقول بأنه يحتمل أن يكون بالفراسة والإلهام بعيد إلا من اغترف غرفة بيده استثناء من الموصول الأول، أو ضميره في الخبر، فإن فسر الشرب بالكروع كان الاستثناء منقطعا وإلا كان متصلا، وفائدة تقديم الجملة الثانية الإيذان بأنها من تتمة الأولى، وأن الغرض منها تأكيدها وتتميمها؛ نهيا عن الكروع من كل وجه، وإفادة أن المغترف ليس بذائق حكما، فيؤكد ترخيص الاغتراف، ولو أخرت لم تفد هذه الفوائد، ولاختل النظم لدلالة الاستثناء إذ ذاك على أن المغترف متحد معه، ودلالة الجملة الثانية بمفهومها على أنه غير متحد معه، ولا يصح في الاستثناء أن يكون من أحد الضميرين الراجعين إلى الموصولين في الصلة؛ للفصل بين أجزاء الصلة حينئذ بالخبر، وأداء المعنى في الأول إلى أن المجترئ في الشرب بغرفة واحدة ليس متصلا به متحدا معه؛ لأن التقدير: والذين شربوا كلهم إلا المغترف ليس مني، ولا يصح أيضا أن يكون من الموصول الثاني، أو الضمير الراجع إليه في الخبر خلافا للبعض، إذ لا فرق لأدائه إلى أن المجترئ المذكور مخرج من حكم الاتحاد معه؛ لأن التقدير: والذين لم يذوقوه فإنهم كلهم إلا المغترف منهم متصلون بي متحدون معي، وليس بالمراد أصلا، والغرفة ما يغرف، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأهل المدينة: غرفة بفتح الغين على أنها مصدر، وقيل: الغرفة والغرفة مصدران، والضم والفتح لغتان، والباء متعلقة باغترف، أو بغرفة في قول، أو بمحذوف وقع صفة لها فشربوا منه عطف على مقدر يقتضيه المقام؛ أي: فابتلوا به فشربوا، والمراد إما كرعوا وهو المتبادر، وروي عن ابن عباس _ رضي الله تعالى عنهما _ أو أفرطوا في الشرب إلا قليلا منهم لم يكرعوا، أو لم يفرطوا في الشرب، بل اقتصروا على الغرفة باليد، وكانت تكفيهم لشربهم وإداوتهم، كما أخرجه ابن أبي حاتم، عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ وأخرج عنه أيضا أن من شرب [ ص: 171 ] لم يزدد إلا عطشا، وفي رواية: إن الذين شربوا اسودت شفاههم، وغلبهم العطش، وكان ذلك من قبيل المعجزة لذلك النبي، وقرأ أبي، والأعمش: إلا قليل بالرفع، وجعلوه من الميل إلى جانب المعنى، فإن قوله تعالى: فشربوا منه في قوة أن يقال: فلم يطيعوه، فحق أن يرد المستثنى مرفوعا؛ كما في قول الفرزدق:

                                                                                                                                                                                                                                      وعض زمان يابن مروان لم يدع     من المال إلا مسحت أو مجلف

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قوله: لم يدع في حكم لم يبق، وذهب أبو حيان إلى أنه لا حاجة إلى التأويل، وجوز في الموجب وجهين: النصب وهو الأفصح، والإتباع لما قبله على أنه نعت أو عطف بيان، وأورد له قوله: وكل أخ مفارقه أخوه لعمر أبيك إلا الفرقدان ولا يخفى ما فيه فلما جاوزه أي: النهر وتخطاه هو أي: طالوت والذين آمنوا عطف على الضمير المتصل المؤكد بالمنفصل، والمراد بهم القليلون، والتعبير عنهم بذلك؛ تنويها بشأنهم، وإيماء إلى أن من عداهم بمعزل عن الإيمان معه متعلق بجاوز لا بآمنوا، وجوز أن يكون خبرا عن ( الذين )، بناء على أن الواو للحال كأنه قيل: ( فلما جاوزه ) والحال إن الذين آمنوا كائنون ( معه )

                                                                                                                                                                                                                                      قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده أي: لا قدرة لنا بمحاربتهم ومقاومتهم، فضلا عن الغلبة عليهم، وجالوت كطالوت، والقائل بعض المؤمنين لبعض، وهو إظهار ضعف لا نكوص، لما شاهدوا من الأعداء ما شاهدوا من الكثرة والشدة؛ قيل: كانوا مائة ألف مقاتل شاكي السلاح، وقيل: ثلاثمائة ألف قال على سبيل التشجيع لذلك البعض، وهو استئناف بياني الذين يظنون أي: يتيقنون أنهم ملاقو الله بالبعث والرجوع إلى ما عنده، وهم الخلص من أولئك، والأعلون إيمانا فلا ينافي وصفهم بذلك إيمان الباقين، فإن درجات المؤمنين في ذلك متفاوتة، ويحتمل إبقاء الظن على معناه، والمراد: يظنون أنهم يستشهدون عما قريب، ويلقون الله تعالى، وقيل: الموصول عبارة عن المؤمنين كافة، وضمير ( قالوا ) للمنخزلين عنهم، كأنهم قالوا ذلك اعتذارا عن التخلف والنهر بينهما، ولا يخفى بعده؛ لأن الظاهر أنهم قالوا هذه المقالة عند لقاء العدو، ولم يكن المنخزلون إذ ذاك معهم، وأيضا أي حاجة إلى إبداء العذر عن التخلف، مع ما سبق من طالوت أن الكارعين ليسوا منه في شيء، فلو لم ينخزلوا لمنعوا من الذهاب ( معه كم من فئة أي: قطعة من الناس وجماعة؛ من فأوت رأسه إذا شققته، أو من فاء إليه إذا رجع، وأصلها على الأول فيوة؛ فحذفت لامها فوزنها فعة، وأصلها على الثاني فيئة؛ فحذفت عينها فوزنها فلة، و ( كم ) هنا خبرية، ومعناها كثير، و ( من ) زائدة، و ( فئة ) تمييز، وجوز أبو البقاء أن يكون ( من فئة ) في موضع رفع صفة لـ ( كم ) كما تقول: عندي مائة من درهم ودينار، وجوز بعضهم أن تكون كم استفهامية، ولعله ليس على حقيقته، ونقل عن الرضى أن ( من ) لا تدخل بعد ( كم ) الاستفهامية، فالقول بالخبرية أولى قليلة نعت لفئة على لفظها غلبت أي: قهرت عند المحاربة فئة كثيرة بالنسبة إليها

                                                                                                                                                                                                                                      بإذن الله أي: بحكمه وتيسيره، ولم يقولوا أطاقت حسبما وقع في كلام أصحابهم؛ مبالغة في تشجيعهم، وتسكين قلوبهم، وإذا حمل التنوين في ( فئة ) الأولى للتحقير، وفي ( فئة ) الثانية للتعظيم؛ كان أبلغ في التشجيع، وأكمل في التسكين، وقد ورد مثل ذلك في قوله: [ ص: 172 ]

                                                                                                                                                                                                                                      له حاجب عن كل أمر يشينه     وليس له عن طالب العرف حاجب

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا كما ترى ناشئ من كمال إيمانهم بالله واليوم الآخر، وتصديقهم بأنه سبحانه لا يعجزه إحياء الموتى، كما لا يعجزه إماتة الأحياء، فضلا عن نصرة الضعفاء، فلا ريب في أن ما في حيز الصلة مما له كمال ملاءمة للحكم الوارد على الموصول، لا سيما وقد أخذ فيه إذن الله تعالى وحكمه، ومن لا يؤمن بلقاء الله تعالى؛ لا يكاد يقرب من هذا القيد قيد شبر، فاندفع بهذا ما قاله مولانا مفتي الديار الرومية: من أن هذا الجواب كما ترى ناشئ من كمال ثقتهم بنصر الله تعالى وتوفيقه، ولا دخل في ذلك لظن لقاء الله تعالى بالبعث، ولا لتوقع ثوابه _ عز شأنه _ ولا ريب في أن ما ذكر في حيز الصلة ينبغي أن يكون مدارا للحكم الوارد على الموصول، ولا أقل من أن يكون وصفا ملائما له، فإن الملاءمة على ما جاد به هذا الذهن الكليل حصلت على أتم وجه وأكمله، فلا حاجة في تحصيلها إلى ما ذكره _ رحمه الله تعالى _ بعد؛ من إخراج اللفظ عن ظاهره الشائع استعماله فيه إلى يوم ملاقاته تعالى، وحمل ملاقاته سبحانه على ملاقاة نصره تعالى وتأييده، وجعل التعبير بذلك عنه مبالغة، فإنه بمعزل عن استعمال ذلك في جميع الكتاب المجيد، وليس هو من قبيل قوله تعالى: والله مع الصابرين المراد منه المعية بالنصر والإحسان؛ لأنه في سائر القرآن مألوف استعماله في مثل ذلك، كما لا يخفى، وهو يحتمل أن يكون من كلام الأعلين؛ أتي به تكميلا للتشجيع، وترغيبا بالصبر، بالإشارة إلى ما فيه، ويحتمل أن يكون ابتداء كلام من جهته تعالى، جيء به تقريرا لكلامهم، ودعاء للسامعين إلى مثل حال هؤلاء، المشير إليها مقالهم.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية