الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى :( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدقات ، بين لهم أن مصرف الصدقات هؤلاء ، ولا تعلق لي بها ، ولا آخذ لنفسي نصيبا منها ، فلم يبق لهم طعن في الرسول بسبب أخذ الصدقات . وههنا مقامات :

                                                                                                                                                                                                                                            المقام الأول : بيان الحكمة في أخذ القليل من أموال الأغنياء ، وصرفها إلى المحتاجين من الناس .

                                                                                                                                                                                                                                            والمقام الثاني : بيان حال هؤلاء الأصناف الثمانية المذكورين في هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            أما المقام الأول فنقول : الحكمة في إيجاب الزكاة أمور ، بعضها مصالح عائدة إلى معطي الزكاة ، وبعضها عائدة إلى آخذ الزكاة .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الأول فهو أمور : الأول : أن المال محبوب بالطبع ، والسبب فيه أن القدرة صفة من صفات الكمال محبوبة لذاتها ، ولعينها لا لغيرها ؛ لأنه لا يمكن أن يقال : إن كل شيء فهو محبوب لمعنى آخر ، وإلا لزم إما التسلسل وإما الدور ، وهما محالان ، فوجب الانتهاء في الأشياء المحبوبة إلى ما يكون محبوبا لذاته . والكمال محبوب لذاته ، والنقصان مكروه لذاته ، فلما كانت القدرة صفة كمال ، وصفة الكمال محبوبة لذاتها ، كانت القدرة محبوبة لذاتها ، والمال سبب لحصول تلك القدرة ، ولكمالها في حق البشر فكان أقوى أسباب القدرة في حق البشر هو المال ، والذي يتوقف عليه المحبوب فهو محبوب ، فكان المال محبوبا ؛ فهذا هو السبب في كونه محبوبا ، إلا أن الاستغراق في حبه يذهب النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت [ ص: 81 ] حكمة الشرع تكليف مالك المال بإخراج طائفة منه من يده ؛ ليصير ذلك الإخراج كسرا من شدة الميل إلى المال ، ومنعا من انصراف النفس بالكلية إليها وتنبيها لها على أن سعادة الإنسان لا تحصل عند الاشتغال بطلب المال ، وإنما تحصل بإنفاق المال في طلب مرضاة الله تعالى ، فإيجاب الزكاة علاج صالح متعين ؛ لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب ، فالله سبحانه أوجب الزكاة لهذه الحكمة ، وهو المراد من قوله :( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ) [ التوبة : 103 ] . أي : تطهرهم وتزكيهم عن الاستغراق في طلب الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أن كثرة المال توجب شدة القوة وكمال القدرة ، وتزايد المال يوجب تزايد القدرة ، وتزايد القدرة يوجب تزايد الالتذاذ بتلك القدرة ، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى أن يسعى في تحصيل المال الذي صار سببا لحصول هذه اللذات المتزايدة ، وبهذا الطريق تصير المسألة مسألة الدور ؛ لأنه إذا بالغ في السعي ازداد المال وذلك يوجب ازدياد القدرة ، وهو يوجب ازدياد اللذة ، وهو يحمل الإنسان على أن يزيد في طلب المال ، ولما صارت المسألة مسألة الدور ، لم يظهر لها مقطع ولا آخر ، فأثبت الشرع لها مقطعا آخر وهو أنه أوجب على صاحبه صرف طائفة من تلك الأموال إلى الإنفاق في طلب مرضاة الله تعالى ؛ ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ، ويتوجه إلى عالم عبودية الله وطلب رضوانه .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثالث : أن كثرة المال سبب لحصول الطغيان والقسوة في القلب ، وسببه ما ذكرنا من أن كثرة المال سبب لحصول القدرة ، والقدرة محبوبة لذاتها ، والعاشق إذا وصل لمعشوقه استغرق فيه ، فالإنسان يصير غرقا في طلب المال ، فإن عرض له مانع يمنعه عن طلبه استعان بماله وقدرته على دفع ذلك المانع ، وهذا هو المراد بالطغيان ، وإليه الإشارة بقوله سبحانه وتعالى :( إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ) [ العلق : 6 ] . فإيجاب الزكاة يقلل الطغيان ، ويرد القلب إلى طلب رضوان الرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الرابع : أن النفس الناطقة لها قوتان ؛ نظرية وعملية ، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله ، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله ، فأوجب الله الزكاة ؛ ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال ، وهو اتصافه بكونه محسنا إلى الخلق ، ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ، دافعا للآفات عنهم ، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام : " تخلقوا بأخلاق الله " .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الخامس : أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيا في إيصال الخيرات إليهم ، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة ، على ما قاله عليه الصلاة والسلام : " جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها " . فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله ، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر ، أمدوه بالدعاء والهمة ، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة ، فصارت تلك الدعوات سببا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب ، وإليه الإشارة بقوله تعالى :( وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ) [ الرعد : 17 ] . وبقوله عليه الصلاة والسلام : " حصنوا أموالكم بالزكاة " .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه السادس : أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء ؛ فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه ، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره ، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام ؛ ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق ، والاستغناء بالشيء صفة الخلق ، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده [ ص: 82 ] أموالا كثيرة فقد رزقه نصيبا وافرا من باب الاستغناء بالشيء ، فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء ، إلى المقام الذي هو أعلى منه ، وأشرف منه ، وهو الاستغناء عن الشيء .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه السابع : أن المال سمي مالا لكثرة ميل كل أحد إليه ، فهو غاد ورائح ، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق ، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق ، فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله ، فإنه يوجب المدح في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة ، وسمعت واحدا يقول : الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر ، فقلت : بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثامن : وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء ، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين ، فكان البذل أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه التاسع : أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى ، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله ، وذلك منتهى كمالات الإنسانية .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه العاشر : أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء : الروح والبدن والمال . فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقا في هذا التكليف ، ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقا بالذكر والقراءة ، والبدن مستغرقا في تلك الأعمال ، بقي المال ؛ فلو لم يصر المال مصروفا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه ، وذلك جهل ؛ لأن مراتب السعادات ثلاث :

                                                                                                                                                                                                                                            أولاها : السعادات الروحانية .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : السعادات البدنية ، وهي المرتبة الوسطى .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : السعادات الخارجية ، وهي المال والجاه . فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية ، فإذا صار الروح مبذولا في مقام العبودية ، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي ، وذلك جهل . فثبت أنه يجب على العاقل أيضا بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الحادي عشر : أن العلماء قالوا : شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم ، والزكاة شكر النعمة ، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني عشر : أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الألف بالمودة بين المسلمين ، وزوال الحقد والحسد عنهم ، وكل ذلك من المهمات ، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة ، فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة ، الأول : أن الله تعالى خلق الأموال ، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها ؛ فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل ، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد ، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه ؛ لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة ، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيا في تحصيل ذلك المال ، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره ، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة ، وحضر إنسان آخر محتاج ، فههنا حصل سببان ، كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال . أما في حق المالك ، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله ، وأيضا شدة تعلق قلبه به ، فإن ذلك التعلق أيضا نوع من أنواع الحاجة . وأما في حق الفقير ، فاحتياجه إلى ذلك المال [ ص: 83 ] يوجب تعلقه به ، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان ، فيقال : حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به ، وحصل للفقير حق الاحتياج ، فرجحنا جانب المالك ، وأبقينا عليه الكثير ، وصرفنا إلى الفقير يسيرا منه توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته يبقى معطلا عن المقصود الذي لأجله خلق المال ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى ، وهو غير جائز ، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير ؛ حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : أن الفقراء عيال الله ؛ لقوله تعالى :( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) [ هود : 6 ] . والأغنياء خزان الله ؛ لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله ، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة ، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي ، ولا يملك ملء بطنه طعاما ، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوا صفوا .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه : اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن يقال : المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه ، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزءا قليلا ، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان . أما الفقير ليس له شيء أصلا ، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلا ، وليس له ما يجبره ، فكان ذلك أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السادس : أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين ، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة ؛ كالسرقة وغيرها ، فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة ، فوجب القول بوجوبها .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه السابع : قال عليه الصلاة والسلام : " الإيمان نصفان ؛ نصف صبر ونصف شكر " والمال محبوب بالطبع ، فوجدانه يوجب الشكر ، وفقدانه يوجب الصبر ، وكأنه قيل : أيها الغني ، أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين ، فأخرج من يدك نصيبا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار ؛ فتصير بسببه من الصابرين ، وأيها الفقير ، ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ، ولكنني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال ؛ حتى إذا حل ذلك المقدار في ملكك شكرتني ، فصرت من الشاكرين ، فكان إيجاب الزكاة سببا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معا .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثامن : كأنه سبحانه يقول للفقير : إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة ، ولكني جعلت نفسي مديونا من قبلك ، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالا كثيرة لكني كلفته أن يعدو خلفك ، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه ، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 84 ] فإن قال الغني : قد أنعمت عليك بهذا الدينار ، فقل أيها الفقير : بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار ، وفي الآخرة من عذاب النار .

                                                                                                                                                                                                                                            فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة ، بعضها يقينية وبعضها إقناعية ، والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله . والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية