الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 27 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( والسنة إذا فرغ من الصلاة أن يخطب لما روى ابن عمر رضي الله عنهما { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أبا بكر وعثمان رضي الله عنهما كانوا يصلون العيدين قبل الخطبة } والمستحب أن يخطب على منبر لما روى جابر رضي الله عنه قال : " { شهدت مع النبي صلى الله عليه وسلم الأضحى فلما قضى خطبته نزل عن منبره } " ويسلم على الناس إذا أقبل عليهم كما قلنا في خطبة الجمعة ، وهل يجلس قبل الخطبة ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا يجلس ; لأن في الجمعة [ إنما ] يجلس لفراغ المؤذن من الأذان ، وليس في العيدين أذان ( والثاني ) يجلس وهو المنصوص في الأم لأنه يستريح بها ، ويخطب خطبتين يفصل بينهما بجلسة ، ويجوز أن يخطب من قعود لما روى أبو سعيد الخدري { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد على راحلته } " ولأن صلاة العيد يجوز قاعدا فكذلك خطبتها بخلاف الجمعة ، والمستحب أن يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع ، لما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه قال : ( هو من السنة ) ويأتي ببقية الخطبة على ما ذكرناه في الجمعة من ذكر الله تعالى وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والوصية بتقوى الله تعالى وقراءة القرآن ، فإن كان في عيد الفطر علمهم صدقة الفطر ، وإن كان في عيد الأضحى علمهم الأضحية ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته { لا يذبحن أحد حتى يصلي } ويستحب للناس استماع الخطبة لما روي عن ابن مسعود أنه قال يوم عيد " من شهد الصلاة معنا فلا يبرح حتى يشهد الخطبة " فإن دخل رجل والإمام يخطب ، فإن كان في المصلى استمع الخطبة ولا يشتغل بصلاة العيد ; لأن الخطبة من سنن العيد ويخشى فواتها ; والصلاة لا يخشى فواتها فكان الاشتغال [ بالخطبة ] أولى وإن كان في المسجد ففيه وجهان : قال أبو علي بن أبي هريرة ، يصلي تحية المسجد ولا يصلي صلاة العيد ; لأن الإمام لم يفرغ من سنة العيد فلا يشتغل بالقضاء وقال أبو إسحاق المروزي : يصلي العيد ; لأنها أهم من تحية المسجد وآكد ، وإذا صلاها سقط بها التحية فكان الاشتغال بها أولى كما لو حضر وعليه مكتوبة )

                                      [ ص: 31 ]

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر رضي الله عنهما رواه البخاري ومسلم ، وحديث جابر رواه البخاري ومسلم بمعناه ، ولفظهما قال جابر " { قام النبي [ ص: 28 ] صلى الله عليه وسلم يوم الفطر فصلى فبدأ بالصلاة ثم خطب ، فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن } فقوله نزل معناه عن المنبر وأما حديث عبيد الله فرواه الشافعي في الأم بإسناد ضعيف ، ومع ضعفه فلا دلالة فيه على الصحيح ; لأن عبيد الله تابعي ، والتابعي إذا قال : من السنة فيه وجهان لأصحابنا حكاهما القاضي أبو الطيب ( أصحهما ) وأشهرهما أنه موقوف ( والثاني ) مرفوع مرسل ، فإن قلنا موقوف فهو قول صحابي لم يثبت انتشاره فلا يحتج به على الصحيح كما سبق ، وإن قلنا : مرفوع فهو مرسل لا يحتج به ، وأما قوله : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته " { لا يذبحن أحد حتى يصلي } " فهو ثابت في الصحيحين بمعناه من رواية البراء بن عازب وجندب بن عبد الله رضي الله عنهم ( أما الأحكام ) فيسن بعد صلاة العيد خطبتان على منبر ، وإذا صعد المنبر أقبل على الناس وسلم عليهم وردوا عليه كما سبق في الجمعة ، ثم يخطب كخطبتي الجمعة في الأركان والصفات ، إلا أنه لا يشترط القيام فيهما ، بل يجوز قاعدا ومضجعا مع القدرة على القيام والأفضل قائما ، ويسن أن يفصل بينهما بجلسة كما يفصل في خطبتي الجمعة وهل يستحب أن يجلس قبل الخطبتين أول صعوده إلى المنبر ، كما يجلس قبل خطبتي الجمعة ؟ فيه الوجهان المذكوران في الكتاب ( أصحهما ) باتفاق الأصحاب يستحب وهو المنصوص في الأم وذكر المصنف دليل هذا كله ، واتفقت نصوص الشافعي والأصحاب على أنه يستحب أن يكبر في أول الخطبة الأولى تسع تكبيرات نسقا ، وفي أول الثانية سبعا

                                      قال الشافعي والأصحاب : ولو أدخل بين هذه التكبيرات الحمد والتهليل والثناء جاز وذكر الرافعي وجها أن صفة هذه التكبيرات كصفة التكبيرات المرسلة والمقيدة التي سنوضحها إن شاء الله تعالى ( واعلم ) أن هذه التكبيرات ليست من نفس الخطبة ، وإنما هي مقدمة لها وقد نص الشافعي وكثيرون من الأصحاب على أنهن لسن من نفس الخطبة ، بل مقدمة لها ، قال البندنيجي : يكبر قبل الأولى تسع تكبيرات وقبل الثانية سبعا ، قال الشيخ أبو حامد : هو ظاهر نص الشافعي ، ولا يغتر [ ص: 29 ] بقول المصنف وجماعة : يستفتح الأولى بتسع تكبيرات ، فإن كلامهم متأول على أن معناه يفتتح الكلام قبل الخطبة بهذه التكبيرات ، لأن افتتاح الشيء قد يكون ببعض مقدماته التي ليست من نفسه ، فاحفظ هذا فإنه مهم خفي ، قال الشافعي والأصحاب : فإن كان في عيد الفطر استحب للخطيب تعليمهم أحكام صدقة الفطر ، وفي الأضحى أحكام الأضحية ، ويبينها بيانا واضحا يفهمونه ويستحب للناس استماع الخطبة ، وليست الخطبة ولا استماعها شرطا لصحة صلاة العيد ، لكن قال الشافعي : لو ترك استماع خطبة العيد أو الكسوف أو الاستسقاء أو خطب الحج ، أو تكلم فيها أو انصرف وتركها ، كرهته ولا إعادة عليه



                                      ولو دخل إنسان والإمام يخطب للعيد ، فإن كان في المصلى جلس واستمع الخطبة ، ولم يصل التحية ، ثم إذا فرغ الإمام فله الخيار إن شاء صلى العيد في الصحراء ، وإن شاء في بيته أو غيره ، هكذا قطع به الجمهور ، ونقلوا الاتفاق عليه ، وقال البندنيجي عن نصه في المختصر قال : ونص في البويطي أنه يصلي العيد قبل أن يدنو من المصلى ، ثم يحضر ويستمع الخطبة ، والمشهور الأول ، فأما إن كان في المسجد فوجهان مشهوران ذكر المصنف دليلهما ( أصحهما ) عند جمهور الأصحاب يصلي العيد ، وتندرج التحية فيه ، وبهذا قال أبو إسحاق المروزي ، وممن صححه الشيخ أبو حامد ، وصاحب الحاوي والقاضي أبو الطيب في المجرد والدارمي والبندنيجي والمحاملي والبغوي وغيرهم ( والثاني ) قاله ابن أبي هريرة يصلي التحية ويؤخر صلاة العيد ، وبهذا قطع سليم الرازي في الكفاية ، وصححه صاحب البيان وهذا الخلاف إنما هو في الأفضل ، هل يصلي التحية ؟ أم العيد ؟ ولا خلاف أنه مأمور بأحدهما ; لأن المسجد لا يجلس فيه إلا بعد صلاة ، فإن صلى التحية - قال أبو إسحاق المروزي والقاضي أبو الطيب وصاحب الشامل وسائر الأصحاب : فالمستحب أن يصلي العيد بعد فراغ الإمام في المسجد ، ولا يؤخرها إلى بيته ، بخلاف ما إذا أدرك الإمام بالمصلى فإنه مخير بين أن [ ص: 30 ] يصلي العيد في المصلى بعد فراغ الإمام ، وبين أن يرجع إلى بيته يصلي ، نص عليه الشافعي قالوا : والفرق أن المصلى لا مزية له على بيته ، وأما المسجد فهو أشرف البقاع ، فكانت صلاته فيه أفضل من بيته ، قال صاحب الشامل وغيره : ويخاف سائر النوافل حيث قلنا : فعلها في البيت أفضل ; لأن هذه الصلاة تسن لها الجماعة ، فكان فعلها في المسجد أولى كالفرائض بخلاف المصلى فإنما استحببناها فيه للإمام لتكثر الجماعة وذلك المعنى مفقود في حق المنفرد ، وهذا كله تفريع على المذهب وهو صحة صلاة العيد للمنفرد وفيه خلاف ذكره المصنف بعد هذا والله أعلم



                                      ( فرع ) إذا فرغ الإمام من الصلاة والخطبة ، ثم علم أن قوما فاتهم سماع الخطبة استحب أن يعيد لهم الخطبة ، سواء كانوا رجالا أم نساء ، وممن صرح به من أصحابنا البندنيجي والمتولي ، واحتجوا له بحديث ابن عباس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم العيد فرأى أنه لم يسمع النساء فأتاهن فذكرهن ووعظهن وأمرهن بالصدقة } " رواه البخاري ومسلم



                                      ( فرع ) لو خطب قبل صلاة العيد فهو مسيء ، وفي الاعتداد بالخطبة احتمال لإمام الحرمين الصحيح بل الصواب أنه لا يعتد بها ، لقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } " وقياسا على السنة الراتبة بعد الفريضة إذا قدمها عليها ، وهذا الذي صححته هو ظاهر نص الشافعي في الأم ، فإنه نص في الأم ونقله أيضا القاضي أبو الطيب في التجريد عن نصه في الأم قال : قال : فإن بدأ بالخطبة قبل الصلاة رأيت أن يعيد الخطبة بعد الصلاة ، فإن لم يفعل لم يكن عليه إعادة صلاة ولا كفارة ، كما لو صلى ولم يخطب هذا نصه بحروفه ، وهو ظاهر في أن الخطبة غير محسوبة ، ولهذا قال : كما لو صلى ولم يخطب



                                      ( فرع ) قال الشافعي في الأم : أكره للمساكين إذا حضروا العيد المسألة في حال الخطبتين ، بل ينكفون عن المسألة حتى يفرغ الإمام من الخطبتين ، قال : فإن سألوا فلا شيء عليهم فيها إلا ترك الفضل في الاستماع



                                      [ ص: 31 ] فرع ) قال أصحابنا : الخطب المشروعة عشر ، خطبة الجمعة والعيدين ، والكسوفين والاستسقاء ، وأربع خطب في الحج ، وكلها بعد الصلاة إلا خطبة الجمعة وخطبة الحج يوم عرفة ، وكلها يشرع فيها خطبتان إلا الثلاث الباقية من الحج فإنهن فرادى ، قال أصحابنا : والفرق بين خطبة الجمعة والعيد في التقدم على الصلاة والتأخر من أوجه ذكرناها في باب الجمعة




                                      الخدمات العلمية