الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ( 46 ) )

يقول تعالى ذكره : قد مكر هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ، فسكنتم من بعدهم في مساكنهم ، مكرهم . وكان مكرهم الذي مكروا ما :

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا يحيى ، قال : ثنا سفيان ، قال : ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن أبان قال : سمعت عليا يقرأ : وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال قال : كان ملك فره أخذ فروخ النسور ، فعلفها اللحم حتى شبت واستعلجت واستغلظت . فقعد هو وصاحبه في التابوت وربطوا التابوت بأرجل النسور ، وعلقوا اللحم فوق التابوت ، فكانت كلما نظرت إلى اللحم صعدت وصعدت ، فقال لصاحبه : ما ترى؟ قال : أرى الجبال [ ص: 39 ] مثل الدخان ، قالا ما ترى؟ قال : ما أرى شيئا ، قال : ويحك صوب صوب ، قال : فذلك قوله : ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن واصل عن علي بن أبي طالب ، مثل حديث يحيى بن سعيد ، وزاد فيه : وكان عبد الله بن مسعود يقرؤها : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا محمد بن أبي عدي ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، قال : ثنا عبد الرحمن بن واصل أن عليا قال في هذه الآية : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : أخذ ذلك الذي حاج إبراهيم في ربه نسرين صغيرين فرباهما ، ثم استغلظا واستعلجا وشبا ، قال : فأوثق رجل كل واحد منهما بوتد إلى تابوت ، وجوعهما ، وقعد هو ورجل آخر في التابوت ، قال : ورفع في التابوت عصا على رأسه اللحم ، قال : فطارا ، وجعل يقول لصاحبه : انظر ماذا ترى؟ قال : أرى كذا وكذا ، حتى قال : أرى الدنيا كأنها ذباب ، فقال : صوب العصا ، فصوبها فهبطا ، قال : فهو قول الله تعالى " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال أبو إسحاق : وكذلك في قراءة عبد الله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو حذيفة ، قال : ثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " مكر فارس . وزعم أن بختنصر خرج بنسور ، وجعل له تابوتا يدخله ، وجعل رماحا في أطرافها واللحم فوقها . أراه قال : فعلت تذهب نحو اللحم حتى انقطع بصره من الأرض وأهلها ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد؟ ففرق : ثم سمع الصوت فوقه ، فصوب الرماح ، فتصوبت النسور ، ففزعت الجبال من هدتها ، وكادت الجبال أن تزول منه من حس ذلك ، فذلك قوله " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال مجاهد : "وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كاد مكرهم " [ ص: 40 ] كذا قرأها مجاهد "كاد مكرهم لتزول منه الجبال" وقال : إن بعض من مضى جوع نسورا ، ثم جعل عليها تابوتا فدخله ، ثم جعل رماحا في أطرافها لحم ، فجعلت ترى اللحم فتذهب ، حتى انتهى بصره ، فنودي : أيها الطاغية أين تريد؟ فصوب الرماح ، فتصوبت النسور ، ففزعت الجبال ، وظنت أن الساعة قد قامت ، فكادت أن تزول ، فذلك قوله تعالى " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

قال ابن جريج : أخبرني عمرو بن دينار ، عن عكرمة ، عن عمر بن الخطاب ، أنه كان يقرأ " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثني هذا الحديث أحمد بن يوسف ، قال : ثنا القاسم بن سلام ، قال : ثنا حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، أنه كان يقرأ على نحو : "لتزول " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليا يقول : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن دانيل قال : سمعت عليا يقول : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " قال : ثم أنشأ علي يحدث فقال : نزلت في جبار من الجبابرة قال : لا أنتهي حتى أعلم ما في السماء ، ثم اتخذ نسورا فجعل يطعمها اللحم حتى غلظت واستعلجت واشتدت ، وذكر مثل حديث شعبة .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبو داود الحضرمي ، عن يعقوب ، عن حفص بن حميد أو جعفر ، عن سعيد بن جبير : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : نمرود صاحب النسور ، أمر بتابوت فجعل وجعل معه رجلا ثم أمر بالنسور فاحتمل ، فلما صعد قال لصاحبه : أي شيء ترى؟ قال : أرى الماء وجزيرة - يعني الدنيا - ثم صعد فقال لصاحبه : أي شيء ترى؟ قال : ما نزداد من السماء إلا بعدا ، قال : اهبط - وقال غيره : نودي - أيها الطاغية أين تريد؟ قال : فسمعت الجبال حفيف النسور ، فكانت ترى أنها أمر من السماء ، فكادت [ ص: 41 ] تزول ، فهو قوله : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، أن أنسا كان يقرأ : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " .

وقال آخرون : كان مكرهم : شركهم بالله ، وافتراؤهم عليه .

ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثنا معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال "يقول : شركهم ، كقوله ( تكاد السماوات يتفطرن منه ) .

حدثنا ابن وكيع ، قال : ثنا المحاربي ، عن جويبر ، عن الضحاك : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال : هو كقوله ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في قوله ( وإن كان مكرهم ) ثم ذكر مثله .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، أن الحسن كان يقول : كان أهون على الله وأصغر من أن تزول منه الجبال ، يصفهم بذلك . قال قتادة : وفي مصحف عبد الله بن مسعود : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " ، وكان قتادة يقول عند ذلك ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) أي لكلامهم ذلك .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " قال ذلك حين دعوا لله ولدا . وقال في آية أخرى ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا ) .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) في حرف ابن مسعود : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " هو مثل قوله ( تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا ) .

[ ص: 42 ] واختلفت القراء في قراءة قوله ( لتزول منه الجبال ) فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والمدينة والعراق ما خلا الكسائي ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال . وقرأه الكسائي : " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " بفتح اللام الأولى ورفع الثانية على تأويل قراءة من قرأ ذلك : " وإن كاد مكرهم لتزول منه الجبال " من المتقدمين الذين ذكرت أقوالهم ، بمعنى : اشتد مكرهم حتى زالت منه الجبال ، أو كادت تزول منه ، وكان الكسائي يحدث عن حمزة ، عن شبل عن مجاهد ، أنه كان يقرأ ذلك على مثل قراءته " وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال " برفع تزول .

حدثني بذلك الحارث عن القاسم عنه .

والصواب من القراءة عندنا ، قراءة من قرأه ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) بكسر اللام الأولى وفتح الثانية ، بمعنى : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

وإنما قلنا : ذلك هو الصواب ، لأن اللام الأولى إذا فتحت ، فمعنى الكلام : وقد كان مكرهم تزول منه الجبال ، ولو كانت زالت لم تكن ثابتة ، وفي ثبوتها على حالتها ما يبين عن أنها لم تزل ، وأخرى إجماع الحجة من القراء على ذلك ، وفي ذلك كفاية عن الاستشهاد على صحتها وفساد غيرها بغيره .

فإن ظن ظان أن ذلك ليس بإجماع من الحجة إذ كان من الصحابة والتابعين من قرأ ذلك كذلك ، فإن الأمر بخلاف ما ظن في ذلك ، وذلك أن الذين قرءوا ذلك بفتح اللام الأولى ورفع الثانية قرءوا : " وإن كاد مكرهم " بالدال ، وهي إذا قرئت كذلك ، فالصحيح من القراءة مع " وإن كاد " فتح اللام الأولى ورفع الثانية على ما قرءوا ، وغير جائز عندنا القراءة كذلك ، لأن مصاحفنا بخلاف ذلك ، وإنما خط مصاحفنا وإن كان بالنون لا بالدال ، وإذ كانت كذلك ، فغير جائز لأحد تغيير رسم مصاحف المسلمين ، وإذا لم يجز ذلك لم يكن الصحاح من القراءة إلا ما عليه قراء الأمصار دون من شذ بقراءته عنهم .

وبنحو ما قلنا في معنى ( وإن كان مكرهم ) قال جماعة من أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : [ ص: 43 ] ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال الحسن ، في قوله ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني المثنى ، قال : ثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال .

حدثني الحارث ، قال : ثنا القاسم ، قال : ثنا حجاج ، عن هارون ، عن يونس وعمرو ، عن الحسن ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) قالا وكان الحسن يقول : وإن كان مكرهم لأوهن وأضعف من أن تزول منه الجبال .

- قال : قال هارون : وأخبرني يونس ، عن الحسن قال : أربع في القرآن ( وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وقوله : ( لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين ) ما كنا فاعلين ، وقوله : ( إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين ) ما كان للرحمن ولد ، وقوله : ( ولقد مكناهم فيما إن مكناكم ) ما مكناكم فيه .

قال هارون : وحدثني بهن عمرو بن أسباط ، عن الحسن ، وزاد فيهن واحدة ( فإن كنت في شك ) ما كنت في شك ( مما أنزلنا إليك ) .

فالأولى من القول بالصواب في تأويل الآية ، إذ كانت القراءة التي ذكرت هي الصواب لما بينا من الدلالة في قوله ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) وقد أشرك الذين ظلموا أنفسهم بربهم وافتروا عليه فريتهم عليه ، وعند الله علم شركهم به وافترائهم عليه ، وهو معاقبهم على ذلك عقوبتهم التي هم أهلها ، وما كان شركهم وفريتهم على الله لتزول منه الجبال ، بل ما ضروا بذلك إلا أنفسهم ، ولا عادت بغية مكروهه إلا عليهم .

حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثنا وكيع بن الجراح ، قال : ثنا الأعمش ، عن شمر ، عن علي ، قال : الغدر : مكر ، والمكر كفر .

التالي السابق


الخدمات العلمية