الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار

                          قال الأستاذ الإمام في تفسير إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا ما مثاله : يقال إن هذه الآية وما قبلها في تقرير التوحيد سواء كان ردا على نصارى نجران أو كان كلاما مستقلا ; فإن التوحيد لما كان أهم ركن للإسلام كان مما تعرف البلاغة [ ص: 191 ] أن يبدأ بتقرير الحق في نفسه ، ثم يؤتى ببيان حال أهل المناكرة والجحود ومناشئ اغترارهم بالباطل ، وأسباب استغنائهم عن ذلك الحق أو اشتغالهم عنه . وأهمها الأموال والأولاد فهي تنبئهم هنا بأنها لا تغني عنهم في ذلك اليوم الذي لا ريب فيه ; إذ يجمع الله فيه الناس ويحاسبهم بما عملوا ، بل ولا في أيام الدنيا ، لأن أهل الحق لا بد أن يغلبوهم على أمرهم ، وما أحوج الكافرين إلى هذا التذكير ، إن الجحود إنما يقع من الناس للغرور بأنفسهم وتوهمهم الاستغناء عن الحق ; فإن صاحب القوة والجاه إذا وعظ بالدين عند هضم حق من الحقوق لا يؤثر فيه الوعظ ، ولكنه إذا رأى أن الحق له واحتاج إلى الاحتجاج عليه بالدين ، فإنه ينقلب واعظا بعد أن كان جاحدا ، فهم لظلمة بصيرتهم وغرورهم بما أوتوا من مال وولد وجاه يتبعون الهوى في الدين في كل حال .

                          قال : فسر مفسرنا ( الجلال ) ( تغني ) بـ " تدفع " ، وهو خلاف ما عليه جمهور المفسرين ، وإنما ( تغني ) هنا كـ " يغني " في قوله - عز وجل - : وإن الظن لا يغني من الحق شيئا [ 53 : 28 ] ولا أراك تقول : إن معناها لن يدفع من الحق شيئا وإنما معنى ( من ) هنا البدلية ، أي أن أموالهم وأولادهم لن تكون بدلا لهم من الله - تعالى - تغنيهم عنه ; فإنهم إذا تمادوا على باطلهم يغلبون على أمرهم في الدنيا ويعذبون في الآخرة - كما سيأتي في الآية التي تلي ما بعد هذه - بل توعدهم في هذه أيضا بقوله : وأولئك هم وقود النار الوقود - بالفتح - كصبور : ما توقد به النار من حطب ونحوه . قال الأستاذ الإمام هنا : أي إنهم سبب وجود نار الآخرة ، كما أن الوقود سبب وجود النار في الدنيا ، أو أنهم مما توقد به ، ولا نبحث عن كيفية ذلك ; فإنه من أمور الغيب التي تؤخذ بالتسليم . راجع تفسير وقودها الناس والحجارة [ 2 : 24 ] فيها مزيد بيان .

                          ثم ذكر - تعالى - مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق فعارضوه وناهضوه حتى ظفر بهم فقال : كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم بأن أهلكهم ونصر موسى على آل فرعون ومن قبله من الرسل على أممهم المكذبين ; ذلك بأنهم كانوا بكفرهم يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فما أخذوا إلا بذنوبهم ، وما نصر الرسل ومن آمن معهم إلا بصلاحهم ; فالله - تعالى - لا يحابي ولا يظلم والله شديد العقاب على مستحقه ; إذ مضت سنته بأن يكون العقاب أثرا طبيعيا للذنوب والسيئات وأشدها الكفر وما تفرع عنه ، فليعتبر المخذولون إن كانوا يعقلون .

                          قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد قرأ حمزة والكسائي : ( سيغلبون ويحشرون ) بياء الغيبة ، والباقون بتاء الخطاب . وهذا الكلام تأكيد لمضمون ما قبله ، أي قل يا محمد لهؤلاء المغرورين بحولهم وقوتهم المعتزين بأموالهم وأولادهم : إنكم ستغلبون [ ص: 192 ] في الدنيا وتعذبون في الآخرة . قال الأستاذ الإمام : كان الكافرون يعتزون بأموالهم وأولادهم فتوعدهم الله - تعالى - وبين لهم أن الأمر ليس بالكثرة والثروة ، وإنما هو بيده سبحانه وتعالى .

                          أقول : يشير إلى مثل قوله - تعالى - : وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين [ 34 : 35 ] وكانوا يرون أن كثرة أموالهم وأولادهم تنفعهم في الآخرة - إن كان هناك آخرة - كما تنفعهم في الدنيا ، وأنه - تعالى - يعطيهم في الآخرة كما أعطاهم في الدنيا . كما حكاه عنهم في قوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا [ 19 : 77 ، 78 ] إلخ . وكقوله في صاحب الجنة ، أي البستان : ودخل جنته وهو ظالم لنفسه قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا [ 18 : 35 ، 36 ] وقد رد القرآن شبهتهم ودعواهم في غير ما موضع ، أما غرورهم بأموالهم وأولادهم في الدنيا وحسبانهم أنهم يكونون بها غالبين أعزاء دائما ، فذلك معهود وشبهته ظاهرة ، وأما زعمهم أنهم يكونون كذلك في الآخرة ، فهو منتهى الطغيان الذي بينه الله - تعالى - في قوله : كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى [ 96 : 6 ، 7 ] وقد أنفذ الله وعيده الأول في أولئك الكافرين فغلبوا في الدنيا . قيل : إن الخطاب لليهود وقد غلبهم المسلمون فقتلوا بني قريظة الخائنين ، وأجلوا بني النضير المنافقين ، وفتحوا خيبر . وقيل : هو للمشركين ، وقد غلبهم المؤمنون يوم بدر ، وأتم الله نعمته بغلبهم يوم الفتح ، ولم تغن عن الفريقين أموالهم ولا أولادهم ، وسينفذ وعيده بهم في الآخرة فيحشرون إلى جهنم ، وبئس المهاد ما مهدوا لأنفسهم ، أو بئس المهاد جهنم . المهاد : الفراش ، يقال : مهد الرجل المهاد إذا بسطه ، ويقال : مهد الأمر ، إذا هيأه وأعده ، وجعل بعضهم جملة وبئس المهاد محكية بالقول ، أي ويقال لهم : بئس المهاد .

                          قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين قرأ نافع ويعقوب : ( ترونهم ) بتاء الخطاب ، والباقون بالياء . يقول - تعالى - : قل يا محمد للمغرورين بأموالهم وأولادهم وبأعوانهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ولا بما يأتي به المال من العدد ، ولا تحسبوا أن هذا هو السبب الذي يفضي إلى النصر والغلب ، فإن في الاعتبار ببعض حوادث الزمان أوضح آية على بطلان هذا الحسبان ، فذكر الفئتين ، أي الطائفتين اللتين التقتا في القتال هو من قبيل المثال ، والجمهور على أن الآية هي ما كان في وقعة بدر ، وقال الأستاذ الإمام : لا يبعد أن تكون الآية تشير إلى وقعة بدر - كما قال المفسر ( الجلال ) - ويحتمل أن تكون إشارة إلى وقائع أخرى قبل الإسلام ، ويرجح هذا إذا كان الخطاب لليهود ; فإن في كتبهم مثل هذه العبرة كقصة طالوت وجالوت التي تقدمت في سورة البقرة . أقول : ( أو قصة جدعون على ما عندهم من التحريف ) ويرجح الأول إذا كان [ ص: 193 ] الخطاب لمشركي العرب ، وثبت أن نزول الآية كان بعد وقعة بدر ، وقد كانت الفئة الكافرة في بدر ثلاثة أضعاف المسلمة ، ويصح أن يكونوا مع ذلك رأوهم مثليهم فقط ; لأن الله قللهم في أعينهم كما ورد في سورة الأنفال . أقول : وهذا التصحيح مبني على القول بأن الرائين هم الفئة التي تقاتل في سبيل الله وهي المؤمنة ، وأن المرئيين هم الفئة الكافرة وعليه الجمهور .

                          وقيل : إن الرائين والمرئيين هم المقاتلون في سبيل الله فالمعنى أنهم يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه عددا . وقيل : إن الرائين هم الكافرون والمرئيين هم المؤمنون ، أي أن الكافرين يرون المؤمنين - على قلتهم - مثليهم في العدد لما وقع في قلوبهم من الرعب والخوف ، وقد حاول من قال بهذا تطبيقه على قوله - تعالى - في خطاب أهل بدر : وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ 8 : 44 ] ، فقال: إن المؤمنين قللوا في أعين المشركين أولا فتجرءوا عليهم ، فلما التقوا كثرهم الله في أعينهم ، ولا يخفى ما فيه من التكلف ، كل هذا على قراءة الجمهور . وأما على قراءة نافع ، فالمعنى : ترونهم أيها المخاطبون مثليهم ، وهي لا تنافي قراءة الجمهور وإنما تفيد معنى آخر ، وهو أن المخاطبين كانوا يرون الكافرين مثلي المؤمنين ، فإذا كان الخطاب لمشركي مكة فهو ظاهر ; لأنه كان منهم من رأى ذلك وعلم به الآخرون ، وإذا كان لليهود فاليهود كانوا مشرفين أيضا بكل عناية على ما جرى ببدر وغير بدر من القتال بين المسلمين والمشركين ; على أن الكلام ليس نصا في وقعة بدر ، واليهود قد شهدوا مثل ذلك في الماضي . وقد علم أن القرآن يسند إلى الحاضرين من الأمة عمل الغابرين لإفادة معنى الوحدة والتكافل ، وظهور أثر الأوائل في الأواخر ، ورأوا مثله في زمن الخطاب في حربهم للمسلمين .

                          وقوله - تعالى - : رأي العين مصدر مؤكد ليرونهم ، وهو ظاهر إذا كانت الرؤية بصرية ، وأما إذا كانت علمية اعتقادية - كما ذهب إليه بعضهم - فالمعنى على التشبيه ، أي تعلمون أنهم مثلهم علما مثل العلم برؤية العين والله يؤيد بنصره من يشاء من الفئتين .

                          وجملة القول : أن الآية ترشد إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها التي غلبت فيها فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله ; ولذلك قال : إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار أي لأصحاب الأبصار الصحيحة التي استعملت فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور بقصد الاستفادة منها لا لمن وصفوا بقوله : لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [ 7 : 179 ] وقال بعض المفسرين : إن الأبصار هنا بمعنى البصائر والعقول من باب المجاز . وقال بعضهم يعني بأولي الأبصار من أبصروا بأعينهم قتال الفئتين ، وما ذكرته أظهر ، ولا أحفظ عن الأستاذ الإمام في هذا شيئا ، وإنما تكلم عن العبرة فقال ما مثاله مبسوطا مزيدا فيه : وجه العبرة [ ص: 194 ] أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الكثيرة بإذن الله ، وقد ورد في القرآن ما يمكن أن نفهم به سنته - تعالى - في مثل هذا التأييد ; لأن القرآن يفسر بعضه بعضا ويجب أخذه بجملته ، بل هذه الآية نفسها تهدي إلى السر في هذا النصر ، فإنه قال : فئة تقاتل في سبيل الله ومتى كان القتال في سبيل الله - أي سبيل حماية الحق والدفاع عن الدين وأهله - فإن النفس تتوجه إليه بكل ما فيها من قوة وشعور ووجدان ، وما يمكنها من تدبير واستعداد مع الثقة بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، ومما يوضح ذلك قوله - تعالى - : يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط [ 8 : 45 - 47 ] أقول وهذا مما نزل في واقعة بدر التي قيل إن الآية التي نفسرها نزلت فيها وإن كان عاما في حكمه مطلقا في عبارته أمر الله - تعالى - المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره الذي يشد عزائمهم وينهض هممهم ، وبالطاعة له - تعالى - ولرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة - وطاعة القائد ركن من أركان الظفر - ونهاهم عن التنازع وأنذرهم عاقبته وهي الفشل وذهاب القوة ، وحذرهم أن يكونوا كأولئك المشركين من أهل مكة ; إذ خرجوا لقتال المسلمين لعلة البطر والطغيان ومراءاة الناس بقوتهم وعزهم ، وهم يصدون عن سبيل الله ، فبهذه الأوامر والنواهي تعرف سنة الله في نصر الفئة القليلة على الكثيرة . وقال - تعالى - في هذه السورة أيضا : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل [ 8 : 60 ] .

                          أورد الأستاذ الإمام الآية الأولى من الآيات التي ذكرناها آنفا وهذه الآية فقط ثم قال : ولا شك أن المؤمنين قد امتثلوا أمر الله - تعالى - في كل ما أوصاهم به بقدر طاقتهم فاجتمع لهم الاستعداد والاعتقاد ، فكان المؤمن يقاتل ثابتا واثقا والكافر متزلزلا مائقا ونصروا الله فنصرهم وفاء بوعده في قوله : يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ 47 : 7 ] وقوله : وكان حقا علينا نصر المؤمنين [ 30 : 47 ] فالمؤمن من يشهد له بإيمانه القرآن وإيتاؤه ما وعد الله المؤمنين ، لا من يدعي الإيمان بلسانه وأخلاقه وأعماله وحرمانه مما وعد الله المؤمنين تكذب دعواه . وغزوات الرسول وأصحابه شارحة لما ورد من الآيات في ذلك ، وناهيك بغزوة أحد ، فإنهم لما خالفوا ما أمروا به نزل بهم ما نزل ، وهذا أكبر عبرة لمن بعدهم لو كانوا يعتبرون بالقرآن ، ولكنهم أعرضوا عنه ونبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما اختاروا لأنفسهم ، ولو عادوا إليه واتحدوا فيه واعتصموا بحبله لفازوا بالعز الدائم والسعادة الكبرى والسيادة العليا في الدنيا والآخرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية