الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( كل حيوان نجس بالموت نجس شعره وصوفه على المنصوص ، وروي عن الشافعي - رحمه الله أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي . واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاث طرق : فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال : ينجس الشعر بالموت قولا واحدا ; لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فينجس بالموت كالأعضاء ، ومنهم من جعل الرجوع عن تنجيس شعر الآدمي رجوعا عن تنجيس جميع الشعور ، فجعل في الشعور قولين :

                                      ( أحدهما ) : ينجس لما ذكرناه .

                                      ( والثاني ) : لا ينجس لأنه لا يحس ولا يتألم فلا تلحقه نجاسة الموت ، ومنهم من جعل هذه الرواية رجوعا عن تنجيس شعر الآدمي خاصة فجعل في الشعر قولين :

                                      ( أحدهما ) : ينجس الجميع لما ذكرناه .

                                      ( والثاني ) : ينجس الجميع إلا شعر الآدمي فإنه لا ينجس ; لأنه مخصوص بالكرامة ، ولهذا يحل لبنه مع تحريم أكله .

                                      وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنا إذا قلنا شعر غيره طاهر فشعره صلى الله عليه وسلم أولى بالطهارة ، واذا قلنا : إن شعر غيره نجس ففي شعره عليه السلام وجهان : ( أحدهما ) : أنه نجس ; لأن ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم ، وقال أبو جعفر الترمذي : هو طاهر ; { لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة رضي الله عنه شعره فقسمه بين الناس } . وكل موضع قلنا : إنه نجس عفي عن الشعرة والشعرتين في الماء والثوب ; لأنه لا يمكن الاحتراز منه ، فعفي عنه كما عفي عن دم البراغيث ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما قوله : { لأن النبي صلى الله عليه وسلم ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس } فحديث صحيح رواه البخاري ومسلم . أما أحكام المسألة فحاصلها أن المذهب نجاسة شعر الميتة غير الآدمي ، [ ص: 286 ] وطهارة شعر الآدمي ، هذا مختصر المسألة ، وأما بسطها فقد ذكر المصنف ثلاث طرق وهي مشهورة في المذهب ، قال القاضي أبو الطيب وآخرون : الشعر والصوف والوبر والعظم والقرن والظلف تحلها الحياة ، وتنجس بالموت . هذا هو المذهب ، وهو الذي رواه البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة ، وروى إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي . وقال صاحب الحاوي : الشعر والوبر والصوف ينجس بالموت . هذا هو المروي عن الشافعي في كتبه والذي نقله عنه جمهور أصحابه : البويطي والمزني والربيع المرادي وحرملة وأصحاب القديم .

                                      قال : وحكى ابن سريج عن أبي القاسم الأنماطي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس الشعر ، وحكى إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي أنه رجع عن تنجيس شعر الآدمي ، وحكى الربيع الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد : يطهر بطهارته وينجس بنجاسته . واختلف أصحابنا في هذه الحكايات الثلاث التي شذت عن الجمهور فجعلها بعضهم قولا ثانيا للشافعي أن الشعر طاهر ، وامتنع الجمهور من إثبات قول ثان لمخالفتها نصوصه ، ويحتمل أنه حكى مذهب غيره .

                                      وأما شعر الآدمي ففيه قولان : أشهرهما عنه أنه نجس .

                                      ( والثاني ) وهو منصوص في الجديد أنه طاهر . هذا كلام صاحب الحاوي . واتفق الأصحاب على أن المذهب أن شعر غير الآدمي وصوفه ووبره وريشه ينجس بالموت ، وأما الآدمي فاختلفوا في الراجح فيه : فالذي صححه أكثر العراقيين نجاسته ، والذي صححه جميع الخراسانيين أو جماهيرهم طهارته ، وهذا هو الصحيح ، فقد صح عن الشافعي رجوعه عن تنجيس شعر الآدمي ، فهو مذهبه ، وما سواه ليس بمذهب له ، ثم الدليل يقتضيه ، وهو مذهب جمهور العلماء كما سنذكره - إن شاء الله تعالى - في فرع في مذاهب العلماء . ثم إن هذا الخلاف في شعر ميتة الآدمي مفرع علي نجاسة ميتة الآدمي ، أما إذا قلنا بطهارة ميتته فشعره طاهر بلا خلاف ، كذا صرح به البغوي والمتولي وغيرهما من الخراسانيين وابن الصباغ والشاشي والشيخ نصر المقدسي [ ص: 287 ] وصاحب البيان وغيرهم من العراقيين . وإذا انفصل شعر آدمي في حياته فطاهر على أصح الوجهين تكرمة للآدمي ، ولعموم البلوى وعسر الاحتراز . وأما إذا انفصل جزء من جسده كيده وظفره فقطع العراقيون أو جمهورهم بنجاسته ، قالوا : وإنما الخلاف في ميتته بجملته لحرمة الجملة . وقال الخراسانيون : فيه وجهان أصحهما الطهارة ، وهذا هو الصحيح . قال إمام الحرمين من قال : العضو المبان في الحياة نجس فقد غلط ، والوجه اعتبار الجزء بالجملة بعد الموت .

                                      وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا قلنا بطهارة غيره فهو أولى ، وإلا فوجهان : قال أبو جعفر : هو طاهر ، وقال غيره : هو نجس ، وهذا الوجه غلط أو كالغلط ، وسأذكر في شعره صلى الله عليه وسلم وفضلات بدنه فرعا مخصوصا بها - إن شاء الله تعالى - .



                                      وأما قول المصنف : " وكل موضع قلنا : إنه نجس عفي عن الشعرة أو الشعرتين - فظاهره تعميم العفو في شعر الآدمي وغيره وقد اتفق أصحابنا على العفو ، ولكن اختلفوا في تخصيصه بالآدمي ، فأطلقت طائفة الكلام إطلاقا يقتضي التعميم كما أطلقه المصنف ، منهم القاضي حسين والمحاملي في المجموع ، وصرح القاضي بجريان العفو في شعر غير الآدمي ، ونقل بعضهم هذا عن تعليق الشيخ أبي حامد ولم أره أنا فيه هكذا ، ولكن نسخ تعليق الشيخ أبي حامد والقاضي حسين يقع فيها اختلاف ، وخصت طائفة ذلك بشعر الآدمي ، منهم الفوراني وابن الصباغ والجرجاني في التحرير والروياني والبغوي وصاحب البيان ، ولكل واحد من الوجهين وجه ، ولكن الصحيح التعميم . وعبارة المصنف كالصريحة فيه ، فإنه فصل الكلام في الشعر ثم قال : " وكل موضع قلنا إنه نجس عفي " ، ولأن الجميع سواء في عموم الابتلاء وعسر الاحتراز . وأما قول المصنف : " كالشعرة والشعرتين " فليس تحديدا لما يعفى عنه بل كالمثال لليسير الذي يعفى عنه . وعبارة أصحابنا يعفى عن اليسير منه ، كذا صرح به الجمهور ، وذكر ابن الصباغ أن بعض أصحابنا فسره بالشعرة والشعرتين ، وقال إمام الحرمين : إذا حكمنا بنجاسة شعر الآدمي فما ينتف من اللحية والرأس على العرف الغالب معفو عنه مع نجاسته كدم البراغيث . [ ص: 288 ] قال : ثم القول في ضبط القليل كالقول في دم البراغيث ، قال : ولعل القليل ما يغلب انتتافه مع اعتدال الحال والله أعلم .



                                      ( فرع ) المذهب الصحيح القطع بطهارة شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم كما سبق ، ودليله الحديث وعظم مرتبته صلى الله عليه وسلم ومن قال بالنجاسة قالوا : إنما قسم الشعر للتبرك ، قالوا : والتبرك يكون بالنجس كما يكون بالطاهر ، كذا قاله الماوردي وآخرون . قالوا : لأن القدر الذي أخذه كل واحد كان يسيرا معفوا عنه ، والصواب القطع بالطهارة كما قاله أبو جعفر ، وحكاه الروياني عن جماعة آخرين ، وصححه القاضي حسين وآخرون . وأما بوله صلى الله عليه وسلم ودمه ففيهما وجهان مشهوران عند الخراسانيين ، وذكر القاضي حسين وقليل منهم في العذرة وجهين ونقلهما في العذرة صاحب البيان عن الخراسانيين ، وقد أنكر بعضهم على الغزالي طرده الوجهين في العذرة ، وزعم أن العذرة نجسة بالاتفاق ، وأن الخلاف مخصوص بالبول والدم ، وهذا الإنكار غلط ، بل الخلاف في العذرة مشهور ، نقله غير الغزالي كما حكيناه عن القاضي حسين وصاحب البيان وآخرين ، وأشار إليه إمام الحرمين وآخرون فقالوا : في فضلات بدنه صلى الله عليه وسلم كبوله ودمه وغيرهما وجهان ، وقال القفال في شرح التلخيص في الخصائص : قال بعض أصحابنا : جميع ما يخرج منه صلى الله عليه وسلم طاهر ، قال : وليس بصحيح ، فهذا نقل القفال وهو شيخ طريقة الخراسانيين وعليه مدارها ، واستدل من قال بنجاسة هذه الفضلات بأنه صلى الله عليه وسلم كان يتنزه منها ، واستدل من قال بطهارتها بالحديثين المعروفين : { أن أبا طيبة الحاجم حجمه صلى الله عليه وسلم وشرب دمه ولم ينكر عليه } ، { وأن امرأة شربت بوله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليها } وحديث أبي طيبة ضعيف ، وحديث شرب المرأة البول صحيح رواه الدارقطني وقال : هو حديث صحيح ، وهو كاف في الاحتجاج لكل الفضلات قياسا . وموضع الدلالة أنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر عليها ، ولم يأمرها بغسل فمها ، ولا نهاها عن العود إلى مثله ، وأجاب القائل بالطهارة عن تنزهه صلى الله عليه وسلم عنها أن ذلك على الاستحباب والنظافة ، والصحيح عند الجمهور نجاسة الدم والفضلات ، وبه [ ص: 289 ] قطع العراقيون ، وخالفهم القاضي حسين فقال : الأصح طهارة الجميع والله أعلم .



                                      ( فرع ) قدمنا في شعر ميتة غير الآدمي خلافا ، المذهب الصحيح أنه نجس ، وهذا الخلاف فيما سوى الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما ، أما شعور هذه فقطع العراقيون وجماعات من الخراسانيين بنجاستها ولم يذكروا فيها الخلاف ، وقال جماعة من الخراسانيين : إذا قلنا بطهارة غيرها ففيها وجهان : أحدهما : الطهارة . وأصحهما النجاسة ، قال إمام الحرمين : قطع الصيدلاني بنجاستها على هذا القول ، وقال القاضي أبو حامد المروذي : هي على هذا القول طاهرة ، قال الإمام : واختاره شيخي يعني والده أبا محمد الجويني ، قال الرافعي : والوجهان جاريان في حالتي الحياة والموت .

                                      ( فرع ) قول المصنف : " لأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فنجس بالموت كالأعضاء " احترز بقوله : " متصل " عن الحمل والبيض المتصلب في جوف ميتته ، وبقوله : " بالحيوان " عن أغصان الشجر ، كذا قاله الشيخ أبو حامد وغيره ، وبقوله : " اتصال خلقة " عن الأذن الملصقة . وقوله : " فمنهم من لم يثبت هذه الرواية وقال : ينجس الشعر بالموت قولا واحدا " ليس معناه القدح في الناقل بتكذيب ونحوه ، وإنما معناه تأويل الرواية على حكاية مذهب الغير كما قدمناه عن نقل صاحب الحاوي . وقوله : ينجس بضم الجيم وفتحها ، وقوله : " لا يحس ولا يألم " يحس بضم الياء وكسر الحاء ، هذه اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن ، قال الله - تعالى - : " { هل تحس منهم من أحد } " ، وفيه لغة قليلة يحس بفتح الياء وضم الحاء . وقوله : يألم بالهمز ويجوز تركه .

                                      ( فرع ) قول المصنف : " لأن ما كان نجسا من غيره كان نجسا منه كالدم " قد وافقه على هذه العبارة صاحب الشامل ، وهذا القياس يقتضي القطع بنجاسة الدم وليس مقطوعا به ، بل فيه الخلاف الذي قدمناه ، وقد قال صاحب الحاوي : إن أبا جعفر الترمذي القائل بطهارة شعره صلى الله عليه وسلم [ ص: 290 ] قيل له : قد حجمه أبو طيبة وشرب دمه ، أفتقول بطهارة دمه ؟ فركب الباب وقال : أقول به ، قيل له : قد شربت امرأة بوله صلى الله عليه وسلم أفتقول بطهارته ؟ فقال : لا ; لأن البول استحال من الطعام والشراب وليس كذلك الدم والشعر ; لأنه من أصل الخلقة ، هذا كلام صاحب الحاوي ، وفيه التصريح بأن أبا جعفر يقول بطهارة الشعر والدم ، فإذا كان كذلك لم يرد عليه القياس على الدم ; لأنه طاهر عنده ، وحينئذ ينكر على المصنف هذا القياس ، ويجاب عنه بأن المصنف اختار في أصول الفقه أن القياس على المختلف فيه جائز ، فإن منع الخصم الأصل أثبته القايس بدليله الخاص ، ثم ألحق به الفرع ، وقد أكثر المصنف في المهذب من القياس على المختلف فيه ، وكله خارج على هذه القاعدة . والله أعلم .

                                      ( فرع ) ذكر المصنف في هذا الفصل أبا طلحة الصحابي وأبا جعفر الترمذي ، أما أبو طلحة فاسمه زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري ، شهد العقبة وبدرا وأحدا وسائر المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحد النقباء ليلة العقبة رضي الله عنهم ، وكان من الصحابة الذين سردوا الصوم بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسنذكرهم - إن شاء الله تعالى - في كتاب الصيام ، قال أبو زرعة الدمشقي الحافظ : عاش أبو طلحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة يسرد الصوم ، وخالفه غيره ، فقال : توفي سنة أربع وثلاثين من الهجرة ، وقيل سنة اثنتين وثلاثين رضي الله عنه . وأما أبو جعفر فاسمه محمد بن أحمد بن نصر أحد الأئمة الذين تنشرح بذكرهم الصدور ، وترتاح لذكر مآثرهم القلوب ، كان رضي الله عنه حنفيا ثم صار شافعيا لرؤيا رآها مشهورة ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت : يا رسول الله آخذ برأي أبي حنيفة ؟ فأعرض عني ، فقلت : برأي مالك ؟ فقال : خذ ما وافق سنتي ، فقلت : برأي الشافعي ؟ فقال أو ذاك رأي الشافعي ، ذلك رد من خالف سنتي . حكى هذه الرؤيا المصنف في الطبقات وآخرون ، وهو منسوب إلى ترمذ البلدة المعروفة التي نسب إليها الإمام الحافظ أبو عيسى الترمذي ، وفي ضبطها ثلاثة أوجه ذكرها [ ص: 291 ] الحافظ أبو سعد السمعاني في كتابه الأنساب ، أحدها ترمذ بكسر التاء والميم . والثاني : بضمهما ، قال : وهو قول أهل المعرفة . والثالث : بفتح التاء وكسر الميم وهو المتداول بين أهل ترمذ ، وهي مدينة قديمة على طرف نهر بلخي الذي يقال له : ( جيحون ) ، وهذه الأوجه الثلاثة تقال في كل من يقال لهالترمذي . قال المصنف في الطبقات : سكن أبو جعفر الترمذي بغداد ولم يكن للشافعيين في وقته بالعراق أرأس ولا أورع ولا أكثر نقلا منه . وكان قوته في كل شهر أربعة دراهم . ولد في ذي الحجة سنة مائتين ، وتوفي في المحرم سنة خمس وتسعين ومائتين

                                      - رحمه الله - ، وموضع بسط أحواله الطبقات والله أعلم



                                      فرع في مذاهب العلماء في شعر الميتة وعظمها وعصبها ، فمذهبنا أن الشعر والصوف والوبر والريش والعصب والعظم والقرن والسن والظلف نجسة ، وفي الشعر خلاف ضعيف سبق ، وفي العظم خلاف أضعف منه قد ذكره المصنف بعد هذا ، وأما العصب فنجس بلا خلاف ، هذا في غير الآدمي ، وممن قال بالنجاسة عطاء ، وذهب عمر بن عبد العزيز والحسن البصري ومالك وأحمد وإسحاق والمزني وابن المنذر إلى أن الشعور والصوف والوبر والريش طاهرة ، والعظم والقرن والسن والظلف والظفر نجسة ، كذا حكى مذاهبهم القاضي أبو الطيب ، وحكى العبدري ، عن الحسن وعطاء والأوزاعي والليث بن سعد أن هذه الأشياء تنجس بالموت لكن تطهر بالغسل ، وعن مالك وأبي حنيفة وأحمد أنه لا ينجس الشعر والصوف والوبر والريش . قال أبو حنيفة وداود : وكذا لا ينجس العظام والقرون وباقيها . قال أبو حنيفة إلا شعر الخنزير وعظمه ، ورخص للخرازين في استعمال شعر الخنزير . لحاجتهم إليه ، وعنه في العصب روايتان .

                                      واحتج لمن قال بطهارة الشعر بقول الله تعالى : " { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين } " ، وهذا عام في كل حال ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في الميتة : { إنما حرم أكلها } وهو في الصحيحين ، وقد قدمناه . وعن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { لا بأس بجلد الميتة إذا دبغ ، [ ص: 292 ] ولا بشعرها إذا غسل } " ، وذكروا أقيسة ومناسبات ليست بقوية ، واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : " { حرمت عليكم الميتة } " وهو عام للشعر وغيره . فإن قالوا : الشعر ليس ميتة - قال أصحابنا : قلنا بل هو ميتة ، فإن الميتة اسم لما فارقته الروح بجميع أجزائه ، قال صاحب الحاوي : ولهذا لو حلف لا يمس ميتة فمس شعرها حنث . فإن قالوا : هذه الآية عامة في الميتة ، والآية التي احتججنا بها خاصة في بعضها وهو الشعر والصوف والوبر ، والخاص مقدم على العام - فالجواب أن كل واحدة من الآيتين فيها عموم وخصوص ، فإن تلك الآية أيضا عامة في الحيوان الحي والميت ، وهذه خاصة بتحريم الميتة ، فكل آية عامة من وجه ، خاصة من وجه ، فتساويا من حيث العموم والخصوص ، وكان التمسك بآيتنا أولى لأنها وردت لبيان المحرم ، وأن الميتة محرمة علينا ، ووردت الأخرى للامتنان بما أحل لنا .

                                      واحتجوا بحديث : " { هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به ؟ } والغالب أن الشاة لا تخلو من شعر وصوف ولم يذكر لهم طهارته والانتفاع به في الحال ، ولو كان طاهرا لبينه ، وفي الاستدلال بهذا نظر . واعتماد الأصحاب على القياس الذي ذكره المصنف ، وذكروا أقيسة كثيرة تركتها لضعفها . وأجاب الأصحاب عن احتجاجهم بقوله تعالى : " { ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها } " أنها محمولة على شعر المأكول إذا ذكي أو أخذ في حياته كما هو المعهود . وأجاب الماوردي بجواب آخر أن من للتبعيض ، والمراد بالبعض الطاهر وهو ما ذكرناه . وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما حرم أكلها " . وأما الجواب عن حديث أم سلمة فمن وجهين أجودهما أنه ضعيف باتفاق الحفاظ قالوا : لأنه تفرد به يوسف بن السفر ( بفتح السين المهملة وإسكان [ ص: 293 ] الفاء ) ، قالوا : وهو متروك الحديث . هذه عبارة جميع أهل هذا الشأن فيه ، وهي أبلغ العبارات عندهم في الجرح ، قال الدارقطني : هو متروك يكذب على الأوزاعي ، وقال البيهقي : هو يضع الحديث . الجواب الثاني : أن هذا الحديث لا يمكن أن يتمسك به من يقول بطهارة الشعر بلا غسل . والله أعلم . واحتج من قال : يطهر الشعر بالغسل بحديث أم سلمة ، وقد بينا اتفاق الحفاظ على ضعفه ، وبيانهم سبب الضعف والجرح ، واحتج أصحابنا بأنها عين نجسة فلم تطهر بالغسل كالعذرة واللحم .

                                      واحتج من قال بطهارة عظام الميتة بحديث عن أنس رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : امتشط بمشط من عاج } ، وبما رواه أبو داود في سننه بإسناده عن حميد الشامي عن سليمان المنبهي عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا ثوبان اشتر لفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج } ، قال صاحب هذا المذهب : والعاج عظم الفيل . واحتج أصحابنا بقول الله تعالى : ( { وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال : من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة } ) فأثبت لها إحياء فدل على موتها والميتة نجسة ، فإن قالوا : المراد أصحاب العظام فحذف المضاف اختصارا - قلنا : هذا خلاف الأصل والظاهر فلا يلتفت إليه .

                                      واحتج الشافعي - رحمه الله - بما روى عمرو بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كره أن يدهن في عظم فيل لأنه ميتة ، والسلف يطلقون الكراهة ويريدون بها التحريم ، ولأنه جزء متصل بالحيوان اتصال خلقة فأشبه الأعضاء . والجواب عن حديث أنس من وجهين : أحدهما : أنه ضعيف ضعفه الأئمة .

                                      ( والثاني ) : أن العاج هو الذبل بفتح الذال المعجمة وإسكان الباء الموحدة ، وهو عظم ظهر السلحفاة البحرية ، وكذا قاله الأصمعي وابن قتيبة وغيرهما من أهل اللغة ، وقال أبو علي البغدادي : العرب تسمي كل عظم عاجا . والجواب عن حديث ثوبان بالوجهين السابقين ، فإن حميدا الشامي [ ص: 294 ] وسليمان المنبهي مجهولان ( والمنبهي بضم الميم وبعدها نون مفتوحة ثم باء موحدة مكسورة مشددة ) . والله أعلم ، وبالله التوفيق .




                                      الخدمات العلمية