الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
باب الجاني يلجأ إلى الحرم أو يجني فيه

قال الله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ قال أبو بكر : لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: إن أول بيت وضع للناس ؛ موجودة في جميع الحرم؛ ثم قال: ومن دخله كان آمنا ؛ وجب أن يكون مراده جميع الحرم؛ وقوله: ومن دخله كان آمنا ؛ يقتضي أمنه على نفسه؛ سواء كان جانيا قبل دخوله؛ أو جنى بعد دخوله؛ إلا أن الفقهاء متفقون على أنه مأخوذ بجنايته في الحرم؛ في النفس؛ وما دونها؛ ومعلوم أن قوله: ومن دخله كان آمنا ؛ هو أمر؛ وإن كان في صورة الخبر؛ كأنه قال: "هو آمن في حكم الله (تعالى)؛ وفيما أمر به"؛ كما نقول: "هذا مباح؛ وهذا محظور"؛ والمراد به كذلك: "في حكم الله (تعالى) وما أمر به عباده"؛ وليس المراد أن مبيحا يستبيحه؛ ولا أن معتقدا للحظر يحظره؛ وإنما هو بمنزلة قوله في المباح: "افعله على أن لا تبعة عليك فيه؛ ولا ثواب"؛ وفي المحظور: "لا تفعله؛ فإنك تستحق العقاب به"؛ وكذلك قوله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ هو أمر لنا بإيمانه؛ وحظر دمه؛ ألا ترى إلى قوله (تعالى): ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ؟ فأخبر بجواز وقوع القتل فيه؛ وأمرنا بقتل المشركين فيه إذا قاتلونا؛ ولو كان قوله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ خبرا لما جاز ألا يوجد مخبره؛ فثبت بذلك أن قوله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ هو أمر لنا بإيمانه؛ ونهي لنا عن قتله؛ ثم لا يخلو ذلك من أن يكون أمرا لنا بأن نؤمنه من الظلم؛ والقتل الذي لا يستحق؛ أو أن نؤمنه من قتل قد استحقه بجنايته؛ فلما كان حمله على الإيمان من قتل غير مستحق عليه؛ بل على وجه الظلم؛ تسقط فائدة تخصيص الحرم به; لأن الحرم وغيره في ذلك سواء؛ إذ كان علينا إيمان كل أحد من ظلم يقع به من قبلنا؛ أو من قبل غيرنا؛ إذا أمكننا ذلك؛ علمنا أن المراد الأمر بالإيمان من قتل مستحق؛ فظاهره يقتضي أن نؤمنه من المستحق من ذلك بجنايته في الحرم؛ وفي غيره؛ إلا أن الدلالة قد قامت من اتفاق أهل العلم على أنه إذا قتل في الحرم قتل؛ قال الله (تعالى): ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم ؛ ففرق بين الجاني في الحرم ؛ وبين الجاني في غيره إذا لجأ إليه.

وقد اختلف الفقهاء فيمن جنى في غير الحرم؛ ثم لاذ إليه ؛ فقال أبو حنيفة ؛ وأبو يوسف؛ ومحمد؛ وزفر؛ والحسن بن زياد : "إذا قتل في غير الحرم ثم دخل الحرم [ ص: 305 ] لم يقتص منه؛ ما دام فيه؛ ولكنه لا يبايع ولا يؤاكل؛ إلى أن يخرج من الحرم؛ فيقتص منه؛ وإن قتل في الحرم قتل؛ وإن كانت جنايته فيما دون النفس في غير الحرم؛ ثم دخل الحرم اقتص منه"؛ وقال مالك ؛ والشافعي : "يقتص منه في الحرم ذلك كله".

قال أبو بكر : روي عن ابن عباس ؛ وابن عمر ؛ وعبيد الله بن عمير؛ وسعيد بن جبير ؛ وعطاء ؛ وطاوس ؛ والشعبي - فيمن قتل ثم لجأ إلى الحرم - أنه لا يقتل؛ قال ابن عباس : "ولكنه لا يجالس؛ ولا يؤوى؛ ولا يبايع؛ حتى يخرج من الحرم؛ فيقتل"؛ وإن فعل ذلك في الحرم أقيم عليه؛ وروى قتادة عن الحسن أنه قال: "لا يمنع الحرم من أصاب فيه أو في غيره أن يقام عليه"؛ قال: "وكان الحسن يقول: ومن دخله كان آمنا ؛ كان هذا في الجاهلية؛ لو أن رجلا جر كل جريرة؛ ثم لجأ إلى الحرم؛ لم يتعرض له حتى يخرج من الحرم؛ فأما الإسلام فلم يزده إلا شدة؛ من أصاب الحد في غيره ثم لجأ إليه أقيم عليه الحد"؛ وروى هشام عن الحسن؛ وعطاء ؛ قالا: "إذا أصاب حدا في غير الحرم؛ ثم لجأ إلى الحرم؛ أخرج عن الحرم حتى يقام عليه"؛ وعن مجاهد مثله؛ وهذا يحتمل أن يريد به أن يضطر إلى الخروج بترك مجالسته؛ وإيوائه؛ ومبايعته؛ ومشاراته؛ وقد روي ذلك عن عطاء مفسرا؛ فجائز أن يكون ما روي عنه وعن الحسن في إخراجه من الحرم على هذا الوجه.

وقد ذكرنا دلالة قوله (تعالى): ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه ؛ على مثل ما دل عليه قوله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ في موضعه؛ وبينا وجه دلالة ذلك على أن دخول الحرم يحظر قتل من لجأ إليه؛ إذا لم تكن جنايته في الحرم؛ وأما ما ذكرنا من قول السلف فيه يدل على أنه اتفاق منهم على حظر قتل من قتل في غير الحرم؛ ثم لجأ إليه; لأن الحسن روي عنه فيه قولان متضادان؛ أحدهما رواية قتادة عنه أنه يقتل؛ والآخر رواية هشام بن حسان في أنه لا يقتل في الحرم؛ ولكنه يخرج منه؛ فيقتل؛ وقد بينا أنه يحتمل قوله: "يخرج فيقتل"؛ أنه يضيق عليه في ترك المبايعة؛ والمشاراة؛ والأكل؛ والشرب؛ حتى يضطر إلى الخروج؛ فلم يحصل للحسن في هذا قول؛ لتضاد الروايتين؛ وبقي قول الآخرين من الصحابة؛ والتابعين؛ في منع القصاص في الحرم بجناية كانت منه في غير الحرم؛ ولم يختلف السلف؛ ومن بعدهم من الفقهاء أنه إذا جنى في الحرم كان مأخوذا بجنايته؛ يقام عليه ما يستحقه من قتل؛ أو غيره.

فإن قيل: قوله (تعالى): كتب عليكم القصاص في القتلى ؛ وقوله: النفس بالنفس ؛ وقوله: ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ؛ يوجب [ ص: 306 ] عمومه القصاص في الحرم على من جنى فيه؛ أو في غيره؛ قيل له: قد دللنا على أن قوله: ومن دخله كان آمنا ؛ قد اقتضى وقوع الأمن من القتل بجناية كانت منه في غيره؛ وقوله: كتب عليكم القصاص ؛ وسائر الآي الموجبة للقصاص؛ مرتب على ما ذكرنا من الأمن بدخول الحرم؛ ويكون ذلك مخصوصا من آي القصاص؛ وأيضا فإن قوله (تعالى): كتب عليكم القصاص ؛ وارد في إيجاب القصاص؛ لا في حكم الحرم؛ وقوله: ومن دخله كان آمنا ؛ وارد في حكم الحرم؛ ووقوع الأمن لمن لجأ إليه؛ فيجرى كل واحد منهما على بابه؛ ويستعمل فيما ورد فيه؛ ولا يعترض بآي القصاص على حكم الحرم؛ ومن جهة أخرى؛ أن إيجاب القصاص - لا محالة - منعدم لإيجاب أمانه بالحرم; لأنه لو لم يكن القصاص واجبا قبل ذلك استحال أن يقال: هو آمن مما لم يجن؛ ولم يستحق عليه؛ فدل ذلك على أن الحكم بأمنه بدخول الحرم متأخر عن إيجاب القصاص؛ ومن جهة الأثر حديث ابن عباس ؛ وأبي شريح الكعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله حرم مكة؛ ولم تحل لأحد قبلي؛ ولا لأحد بعدي؛ وإنما أحلت لي ساعة من نهار"؛ فظاهر ذلك يقتضي حظر قتل اللاجئ إليه؛ والجاني فيه؛ إلا أن الجاني فيه لا خلاف فيه أنه يؤخذ بجنايته؛ فبقي حكم اللفظ في الجاني إذا لجأ إليه؛ وروى حماد بن سلمة عن حبيب المعلم؛ عن عمرو بن شعيب ؛ عن أبيه؛ عن جده؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن أعتى الناس على الله - عز وجل - رجل قتل غير قاتله؛ أو قتل في الحرم؛ أو قتل بذحل الجاهلية"؛ وهذا أيضا يحظر عمومه قتل كل من كان فيه؛ فلا يخص منه شيء إلا بدلالة؛ وأما ما دون النفس فإنه يؤخذ به; لأنه لو كان عليه دين فلجأ إلى الحرم؛ حبس به؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لي الواجد يحل عرضه؛ وعقوبته"؛ والحبس في الدين عقوبة؛ فجعل الحبس عقوبة؛ وهو فيما دون النفس؛ فكل حق وجب فيما دون النفس أخذ به؛ وإن لجأ إلى الحرم؛ قياسا على الحبس في الدين.

وأيضا لا خلاف بين الفقهاء أنه مأخوذ بما يجب عليه؛ فيما دون النفس؛ وكذلك لا خلاف أن الجاني في الحرم مأخوذ بجنايته في النفس؛ وما دونها؛ ولا خلاف أيضا أنه إذا جنى في غير الحرم ثم دخل الحرم أنه إذا لم يجب قتله في الحرم أنه لا يبايع؛ ولا يشارى؛ ولا يؤوى؛ حتى يخرج؛ ولما ثبت عندنا أنه لا يقتل؛ وجب استعمال الحكم الآخر فيه في ترك مشاراته؛ ومبايعته؛ وإيوائه؛ فهذه الوجوه كلها لا خلاف فيها؛ وإنما الخلاف فيمن جنى في غير الحرم؛ ثم لجأ إلى الحرم؛ وقد دللنا عليه؛ وما عدا ذلك فهو محمول على ما حصل عليه الاتفاق؛ [ ص: 307 ] وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبدوس بن كامل قال: حدثنا يعقوب بن حميد قال: حدثنا عبد الله بن الوليد؛ عن سفيان الثوري ؛ عن محمد بن المنكدر ؛ عن جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسكن مكة سافك دم؛ ولا آكل ربا؛ ولا مشاء بنميمة"؛ وهذا يدل على أن القاتل إذا دخل الحرم لم يؤو؛ ولم يجالس؛ ولم يبايع؛ ولم يشار؛ ولم يطعم؛ ولم يسق؛ حتى يخرج؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يسكن مكة سافك دم"؛ وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا داود بن عمرو قال: حدثنا محمد بن مسلم ؛ عن إبراهيم بن ميسرة عن طاوس ؛ عن ابن عباس قال: "إذا دخل القاتل الحرم لم يجالس؛ ولم يبايع؛ ولم يؤو؛ واتبعه طالبه؛ يقول له: اتق الله في دم فلان؛ واخرج من الحرم".

ونظير قوله (تعالى): ومن دخله كان آمنا ؛ قوله - عز وجل -: أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ؛ وقوله: أولم نمكن لهم حرما آمنا ؛ وقوله: وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمنا ؛ فهذه الآي متقاربة المعاني في الدلالة على حظر قتل من لجأ إليه؛ وإن كان مستحقا للقتل قبل دخوله؛ ولما عبر تارة بذكر البيت؛ وتارة بذكر الحرم؛ دل على أن الحرم في حكم البيت في باب الأمن؛ ومنع قتل من لجأ إليه ؛ ولما لم يختلفوا أنه لا يقتل من لجأ إلى البيت; لأن الله (تعالى) وصفه بالأمن فيه؛ وجب مثله في الحرم فيمن لجأ إليه.

فإن قيل: من قتل في البيت لم يقتل فيه؛ ومن قتل في الحرم قتل فيه؛ فليس الحرم كالبيت؛ قيل له: لما جعل الله حكم الحرم حكم البيت فيما عظم من حرمته؛ وعبر تارة بذكر البيت؛ وتارة بذكر الحرم؛ اقتضى ذلك التسوية بينهما؛ إلا فيما قام دليل تخصيصه؛ وقد قامت الدلالة في حظر القتل في البيت؛ فخصصناه؛ وبقي حكم الحرم على ما اقتضاه ظاهر القرآن؛ من إيجاب التسوية بينهما؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية