الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 195 ] زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب لاتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : أحدها مبني على القول بأن بضعا وثمانين آية من أول هذه السورة نزلت في وفد نصارى نجران . وروى أصحاب السير أن هذا الوفد كان ستين راكبا ، وأنهم دخلوا المسجد النبوي وعليهم ثياب الحبرات وأردية الحرير ، وفي أصابعهم خواتم الذهب ، وطفقوا يصلون صلاتهم ، فأراد الناس منعهم ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : دعوهم ثم عرضوا هديتهم عليه وهي بسط فيها تصاوير ومسوح فقبل المسوح دون البسط .

                          ولما رأى فقراء المسلمين ما على هؤلاء من الزينة تشوفت نفوسهم إلى الدنيا فنزلت الآية .

                          كذا قال بعضهم ، وهو ما يذكره أهل السير ولا يخفى ضعفه . وقال الأستاذ الإمام : إن رئيس وفد نجران ذكر في حديثه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه يمنعه من الاعتراف بأنه هو النبي المبشر به وبصدقه أن هرقل ملك الروم أكرم مثواه ومتعه وأنه يسلبه ما أعطاه من مال وجاه إذا هو آمن . فبين - تعالى - أن ما زين للناس من حب الشهوات حتى صرفهم عن الحق لا خير فيه . وقال الإمام الرازي : إنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني اعترف لأخيه بأنه يعرف صدق محمد - صلى الله عليه وسلم - في قوله إلا أنه لا يقر بذلك خوفا من أن يأخذ منه ملوك الروم المال والجاه . ( قال ) وروينا أنه - عليه الصلاة والسلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام بعد غزوة بدر أظهروا من أنفسهم القوة والشدة والاستظهار بالمال والسلاح ، فبين في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها من متاع الدنيا باطلة وأن الآخرة خير وأبقى . اهـ .

                          ومنها ما هو مبني على أن الآيات نزلت في تقرير أمر التوحيد وما يتبعه ، والاتصال على هذا الوجه أظهر ; فإنه بعدما بين أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم التي أعرضوا عن الحق لأجلها بين وجه غرورهم بها للتحذير من جعلها آلة للغرور وترك الحق ، وللتذكير بأنه لا ينبغي أن تشغل الإنسان عن الآخرة .

                          [ ص: 196 ] ومنها - وهو المختار عند الأستاذ الإمام - إنه لما كان الكلام السابق يتضمن وعيد الكافرين جاء بعده بوعد المتقين ، وجعل له مقدمة بين فيها جميع أصول اللذات التي يتمتع بها الناس بحسب غرائزهم تمهيدا لتعظيم شأن ما بعدها من أمر الآخرة . أقول : يعني أنه ليس المراد ذمها والتنفير عنها ، وإنما المراد التحذير من أن تجعل هي غاية الحياة .

                          والناس في قوله - تعالى - : زين للناس حب الشهوات هم المكلفون ; لأن الكلام في إرشادهم ، فلا معنى للبحث في الأطفال هنا .

                          والشهوات : جمع شهوة وهي انفعال النفس بالشعور بالحاجة إلى ما تستلذه ، والمراد بها هنا المشتهيات على طريق المبالغة ، وهي شائعة الاستعمال ، يقال : هذا الطعام شهوة فلان ، أي مشتهاه . ومعنى تزيين حبها لهم : أن حبها مستحسن عندهم لا يرون فيه شينا ( قبحا ) ولا غضاضة ، وقد يحب الإنسان الشيء وهو يراه من الشين لا من الزين ومن الضار لا من النافع ، ويود لذلك لو لم يكن يحبه ، ومثل لذلك الإمام الرازي بحب المسلم لبعض المحرمات ، ومثل له الأستاذ الإمام بحب بعض الناس للدخان على تأذيه منه ، فكل من هذين المحبين يود لو انقلب حبه كرها وبغضا ، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن يرجع عن حبه يوما ، وأما من زين له حبه الشيء فلا يكاد يرجع عنه ; لأن ذلك منتهى الحب ، وصاحبه لا يكاد يفطن لقبحه وضرره إن كان قبيحا أو ضارا ، ولا يحب أن يرجع وإن تأذى به . قال المجنون :


                          وقالوا لو تشاء سلوت عنها فقلت لهم : وإني لا أشاء



                          ولذلك قال - تعالى - : أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم [ 47 : 14 ] وقد اختلف المفسرون في إسناد التزيين في هذا المقام فأسنده بعضهم إلى الشيطان ; لأن حب الشهوات مذموم لا سيما وقد أطلقت هنا فدخل فيها المحرمات في رأيهم ; ولأن حب كثرة المال مذموم في الدين بحسب فهمهم له ; ولأنه سمى ذلك متاع الحياة الدنيا وهي مذمومة عندهم ; ولأنه فضل عليه ما أعده للمتقين يوم القيامة ، ويؤثر هذا الإسناد عن الحسن البصري . وأسنده بعضهم إلى الله - تعالى - ; لأنه - تعالى - أباح الزينة والطيبات وأنكر على من حرم ذلك بقوله : قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة [ 7 : 32 ] فجعل إباحتها في الدنيا غير منافية لنيلها في الآخرة ; ولأنها قد تكون وسائل للآخرة بتكثير النسل وكثرة الصدقات والمبرات والجهاد ، وعزي هذا القول إلى المعتزلة . وقال بعض المعتزلة بالتفصيل ، فقسم الشهوات إلى محمودة ومذمومة أو مباحة ومحرمة . وقال : إن الله زين القسم الأول ، والشيطان زين القسم الثاني . أقول : وغفل الجميع عن كون الكلام في طبيعة البشر وبيان حقيقة الأمر في نفسه لا في جزئياته وأفراد وقائعه . فالمراد أن الله - تعالى - أنشأ الناس على هذا وفطرهم عليه ، [ ص: 197 ] ومثل هذا لا يجوز إسناده إلى الشيطان بحال وإنما يسند إليه ما قد يعد هو من أسبابه كالوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا ; ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال . قال - تعالى - : وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم [ 8 : 48 ] الآية ، وقال : وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون [ 6 : 43 ] وأما الحقائق وطبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له . قال - عز وجل - : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا [ 18 : 7 ] وقال : كذلك زينا لكل أمة عملهم [ 6 : 108 ] فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع وفي هذا المعنى آيات أخرى .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية