الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما

لما جيء في بيان النهي عن المكث في بيوت النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه يؤذيه أتبع بالنهي عن أذى النبيء - صلى الله عليه وسلم - نهيا عاما ، فالخطاب في لكم للمؤمنين المفتتح بخطابهم آية يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم الآية .

والواو عاطفة جملة على جملة أو هي واو الاعتراض بين جملة وإذا سألتموهن متاعا وجملة لا جناح عليهن في آبائهن .

ودلت جملة ( ما كان لكم ) على الحظر المؤكد لأن ( ما كان لكم ) نفي للاستحقاق الذي دلت عليه اللام ، وإقحام فعل كان لتأكيد انتفاء الإذن .

وهذه الصيغة من صيغ شدة التحريم .

[ ص: 93 ] وتضمنت هذه الآية حكمين : أحدهما : تحريم أن يؤذوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، والأذى : قول يقال له ، أو فعل يعامل به ، من شأنه أن يغضبه أو يسوءه لذاته .

والأذى تقدم في أول هذه الآيات آنفا . والمعنى : أن أذى النبي - صلى الله عليه وسلم - محظور على المؤمنين . وانظر الباب الثالث من القسم الثاني من كتاب الشفاء لعياض .

والحكم الثاني : تحريم أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الناس بقوله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا وهو تقرير لحكم أمومة أزواجه للمؤمنين السالف في قوله وأزواجه أمهاتهم .

وقد حكيت أقوال في سبب نزول هذه الآية : منها أن رجلا قال : لو مات محمد تزوجت عائشة ، أي قال بمسمع ممن نقله عنه فقيل هذا الرجل من المنافقين وهذا هو المظنون بقائل ذلك . وقيل هو من المؤمنين ، أي خطر ذلك في نفسه ، قاله القرطبي . وذكروا رواية عن ابن عباس وعن مقاتل أنه طلحة بن عبيد الله .

وقال ابن عباس : كانت هفوة منه وتاب وكفر بالحج ماشيا وبإعتاق رقاب كثيرة وحمل في سبيل الله على عشرة أفراس أو أبعرة . وقال ابن عطية : هذا عندي لا يصح على طلحة والله عاصمه من ذلك ، أي إن حمل على ظاهر صدور القول منه فأما إن كان خطر له ذلك في نفسه فذلك خاطر شيطاني أراد تطهير قلبه فيه بالكفارات التي أعطاها إن صح ذلك . وأقول لا شك أنه من موضوعات الذين يطعنون في طلحة بن عبيد الله . وهذه الأخبار واهية الأسانيد ودلائل الوضع واضحة فإن طلحة إن كان قال ذلك بلسانه لم يكن ليخفى على الناس فكيف يتفرد بروايته من انفرد . وإن كان خطر ذلك في نفسه ولم يتكلم به فمن ذا الذي اطلع على ما في قلبه ، وليس بمتعين أن يكون لنزول هذه الآية سبب . فإن كان لها سبب فلا شك أنه قول بعض المنافقين لما يؤذن به قوله تعالى عقب هذه الآيات لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض الآية . وإنما شرعت الآية أن حكم أمومة أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤمنين حكم دائم في حياة النبي - عليه الصلاة والسلام - أو من بعده ولذلك اقتصر هنا على التصريح بأنه حكم ثابت من بعد [ ص: 94 ] لأن ثبوت ذلك في حياته قد علم من قوله وأزواجه أمهاتهم وإضافة البعدية إلى ضمير ذات النبي - عليه الصلاة والسلام - تعين أن المراد بعد حياته كما هو الشائع في استعمال مثل هذه الإضافة فليس المراد بعد عصمته من نحو الطلاق لأن طلاق النبي - صلى الله عليه وسلم - أزواجه غير محتمل شرعا لقوله ولا أن تبدل بهن من أزواج .

وأكد ظرف ( بعد ) بإدخال ( من ) الزائدة عليه ، ثم أكد عمومه بظرف ( أبدا ) ليعلم أن ذلك لا يتطرقه النسخ ثم زيد ذلك تأكيدا وتحذيرا بقوله إن ذلكم كان عند الله عظيما ، فهو استئناف مؤكد لمضمون جملة وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله . والإشارة إلى ما ذكر من إيذاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وتزوج أزواجه ، أي ذلكم المذكور .

والعظيم هنا في الإثم والجريمة بقرينة المقام .

وتقييد العظيم بكونه عند الله للتهويل والتخويف ؛ لأنه عظيم في الشناعة . وعلة كون تزوج أحد المسلمين إحدى نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - إثما عظيما عند الله ، أن الله جعل نساء النبي - عليه الصلاة والسلام - أمهات للمؤمنين فاقتضى ذلك أن تزوج أحد المسلمين إحداهن له حكم تزوج المرء أمه ، وذلك إثم عظيم .

واعلم أنه لم يتبين هل التحريم الذي في الآية يختص بالنساء اللاتي بنى بهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو هو يعم كل امرأة عقد عليها مثل الكندية التي استعاذت منه فقال لها : الحقي بأهلك ، فتزوجها الأشعث بن قيس في زمن عمر بن الخطاب ومثل قتيلة بنت قيس الكلبية التي زوجها أخوها الأشعث بن قيس من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم حملها معه إلى حضرموت فتوفي رسول الله قبل قفولهما فتزوجها عكرمة بن أبي جهل وأن أبا بكر هم بعقابه فقال له عمر : إن رسول الله لم يدخل بها .

والمرويات في هذا الباب ضعيفة . والذي عندي أن البناء والعقد كانا يكونان مقترنين وأن ما يسبق البناء مما يسمونه تزويجا فإنما هو مراكنة ووعد ويدل لذلك ما في الصحيح أن رسول الله لما أحضرت إليه الكندية ودخل عليها رسول الله فقال [ ص: 95 ] لها : هبي لي نفسك أي ليعلم أنها رضيت بما عقد لها وليها فقالت : ما كان لملكة أن تهب نفسها لسوقة أعوذ بالله منك . فقال لها : لقد استعذت بمعاذ . فذلك ليس بطلاق ولكنه رجوع عن التزوج بها دال على أن العقد لم يقع وأن قول عمر ، لأبي بكر أو قول من قال لعمر : إن رسول الله لم يدخل بها هو كناية عن العقد .

وعن الشافعي تحريم تزوج من عقد عليها النبيء - صلى الله عليه وسلم - . ورجع إمام الحرمين ، والرافعي أن التحريم قاصر على التي دخل بها . على أنه يظهر أن الإضافة في قوله ( أزواجه ) بمعنى لام العهد ، أي الأزواج اللائي في شأنهن هذه الآيات من قوله لا يحل لك النساء من بعد فهن اللاء ثبت لهن حكم الأمهات .

وبعد فإن البحث في هذه المسألة مجرد تفقه لا يبنى عليه عمل .

التالي السابق


الخدمات العلمية