الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 193 ] ( باب اليمين في الضرب والقتل وغيره )

( ومن قال لآخر إن ضربتك فعبدي حر فمات فضربه فهو على الحياة ) لأن الضرب اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن ، والإيلام لا يتحقق في الميت ، ومن يعذب في القبر توضع فيه الحياة في قول العامة [ ص: 194 ] وكذلك الكسوة لأنه يراد به التمليك عند الإطلاق ، ومنه الكسوة في الكفارة وهو من الميت لا يتحقق [ ص: 195 ] إلا أن ينوي به الستر ، وقيل بالفارسية ينصرف إلى اللبس ( وكذا الكلام والدخول ) لأن المقصود من الكلام الإفهام والموت ينافيه ، والمراد من الدخول عليه زيارته وبعد الموت يزار قبره لا هو

التالي السابق


( باب اليمين في الضرب والقتل وغير ذلك ) من الغسل والكسوة ( قوله ومن قال : إن ضربتك فعبدي حر فهو على الحياة ) حتى إذا مات فضربه لا يحنث ( لأن الضرب اسم لفعل مؤلم يتصل بالبدن ) أو استعمال آلة التأديب في محل قابل للتأديب ، ( والإيلام ) والأدب ( لا يتحقق في الميت ) لأنه لا يحس ولذا كان الحق أن الميت المعذب في قبره توضع فيه الحياة بقدر ما يحس بالألم . والبنية ليست بشرط عند أهل السنة حتى لو كان متفرق الأجزاء بحيث لا تتميز الأجزاء بل هي مختلطة بالتراب فعذب جعلت الحياة في تلك الأجزاء [ ص: 194 ] التي لا يأخذها البصر ، وإن الله على ذلك لقدير . والخلاف فيه إن كان بناء على إنكار عذاب القبر أمكن ، وإلا فلا يتصور من عاقل القول بالعذاب مع عدم الإحساس . وقد أورد على أخذ الإيلام في تعريف الضرب قوله تعالى { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } فقد بر بضرب الضغث وهي حزمة من ريحان ونحوه ولا إيلام فيه . وأجيب أولا بمنع عدم الألم في ضرب أيوب عليه السلام بالكلية . وقد روي عن ابن عباس أنه قبضة من الشجر ، وإن سلم فمخصوص بأيوب . ودفع بأنه تمسك به في كتاب الحيل في جواز الحيلة فلم يعتبره .

وفي الكشاف : هذه الرخصة باقية . والحق أن البر بضرب بضغث بلا ألم أصلا خصوصية رحمة لزوجة أيوب عليه السلام ، ولا ينافي ذلك بقاء شرعية الحيلة في الجملة حتى قلنا : إذا حلف ليضربنه مائة سوط وضربه بها مرة لا يحنث لكن بشرط أن يصيب بدنه كل سوط منها ، وذلك إما أن يكون بأطرافها قائمة أو بأعراضها مبسوطة ، والإيلام شرط فيه ، أما عدمه بالكلية فلا . ولو ضربه بسوط واحد له شعبتان خمسين مرة يبر ، ولو ضربه مائة سوط وخفف بحيث لم يتألم به لا يبر لأنه ضرب صورة لا معنى . ولا بد من معناه ، فلا يبر إلا بأن يتألم ، حتى إن من المشايخ من شرط فيما إذا جمع بين رءوس الأعواد وضرب بها كون كل عود بحال لو ضرب منفردا به لأوجع المضروب ، وبعضهم قالوا بالحنث على كل حال ، والفتوى على قول عامة المشايخ وهو أنه لا بد من الألم . [ فروع ] قال : لأضربنك حتى أقتلك هو الضرب الشديد ، ومثله حتى أتركك لا حي ولا ميت ، وحتى تستغيث فهو على وجود ذلك ، وكذا حتى تبول أو حتى تبرك . وعندي أيضا على الضرب الشديد لأضربنك بالسيف حتى تموت ، ولأضربن ولدك على الأرض حتى ينشق نصفين ، فهو على أن يضرب به الأرض ويركله فقط ، وخلاف هذا ليس بصحيح . حلف ليضربنه بالسيف حنث بضربه بغلافه وهو فيه ، وكذا بالسوط فلفه بخرقة وضربه حنث . حلف ليضربنه بنصل هذا السكين أو بزج هذا الرمح فنزعه وركب غيره وضربه به لا يحنث

ولو قال : إن لقيتك فلم أضربك فعبدي حر فرآه على سطح أو من بعيد بحيث لا تصل إليه يده ولا يقدر على ضربه لا يحنث ، قال محمد : إذا كان بينه وبين فلان قدر ميل أو أكثر فلم يلقه . حلف لا يضرب امرأته فضرب أمته : يعني فأصاب ضربه المرأة بغير قصد حنث . حلف لا أعذبه فحبسه لا يحنث لأن الحبس تعذيب قاصر فلا يدخل تحت المطلق ( قوله وكذا الكسوة ) إذا حلف ليكسونه فألقى عليه ثوبا بعد موته يحنث وتقتصر [ ص: 195 ] الكسوة على الحياة لاعتبار التمليك في مفهومها ، ولذا لو قال : كسوتك هذا الثوب كان هبة ، وقد جعلها الله سبحانه إحدى خصال الكفارة ، والمعتبر فيها فيما سوى الإطعام التمليك ، والميت ليس أهلا للتملك ليصح التمليك . قال الفقيه أبو الليث : لو كانت يمينه بالفارسية ينبغي أن يحنث لأن هذا اللفظ بالفارسية يراد به اللبس دون التمليك ( قوله إلا أن ينوى به الستر ) استثناء من قوله فهو على الحياة الذي تضمنه التشبيه في قوله : وكذلك الكسوة فحينئذ يحنث لأن السترة تتحقق في حق الميت كما في الحي فتنعقد يمينه على حالتي الموت والحياة ، وذكر ضمير به وهو الكسوة على تأويل قوله : كسوتك ، وقيل على تأويل الإكساء ولا وجود له في اللغة ( قوله وكذا الكلام ) يعني إذا حلف لا يكلمه اقتصر على الحياة ، فلو كلمه بعد موته لا يحنث لأن المقصود منه الإفهام والموت ينافيه ; لأنه لا يسمع فلا يفهم . وأورد { أنه صلى الله عليه وسلم قال لأهل القليب قليب بدر : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ فقال عمر رضي الله عنه : أتكلم الموتى يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيدي ما أنتم بأسمع لما أقول من هؤلاء أو منهم } وأجيب بأنه غير ثابت : يعني من جهة المعنى وإلا فهو في الصحيح ، وذلك بسبب أن عائشة رضي الله عنها ردته بقوله تعالى : { وما أنت بمسمع من في القبور } { إنك لا تسمع الموتى } وبأنه إنما قاله له على وجه الموعظة للأحياء لا لإفهام الموتى ، كما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : " السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، أما نساؤكم فنكحت وأما أموالكم فقسمت ، وأما دوركم فقد سكنت ، فهذا خبركم عندنا فما خبرنا عندكم " وبأنه مخصوص بأولئك تضعيفا للحسرة عليهم ، لكن بقي أنه روي عنه صلى الله عليه وسلم { إن الميت ليسمع خفق نعالهم إذا انصرفوا } ولينظر في كتاب الجنائز من هذا الشرح ( قوله والدخول ) يعني إذا حلف لا يدخل على فلان تقيد بالحياة ، فلو دخل عليه ميتا لا يحنث ; لأن المراد من الدخول عليه زيارته أو خدمته حتى لا يقال دخل على حائط ولا على دابة ، والزيارة للميت ليست حقيقة بل إنما المزور قبره ، ولهذا { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها } ولم يقل عن زيارة الموتى




الخدمات العلمية